بطليموس الاول
صفحة 1 من اصل 1
بطليموس الاول
بطليموس الاول
سياسة البطالمة الخارجية من عام 323 حتى عام 217 ق.م :
أن سياسة البطالمة الداخلية على وجهها الصحيح يقتضي البدء بدراسة سياستهم الخارجية، وذلك لأن النظم التي وضعها البطالمة لحكم مصر تأثرت إلى حد بعيد بالدور الذي أرادوا أن يلعبوه في العالم. ولما كنا تفتقر إلى أدلة مباشرة على سياسة البطالمة الخارجية، فإننا سنحاول استخلاص هذه السياسة من دراسة الحقائق التاريخية. ويجب أن نشير إلى أن الغموض الذي يكتف هذه الحقائق قد أدى إلى اختلاف العلماء في تفسيرها.
فيرى كورنمان (Kornemann) أن البطالمة الأوائل كانوا يطمحون إلى بسط سلطاتهم على جميع العالم المأهول، أي أنهم كانوا كالإسكندر الأكبر يطمحون إلى تكوين إمبراطوية عالمية.
ويرى فيلكن (Wilcken) أن البطالمة كانوا يرمون من وراء حكم مصر إلى امتصاص كل ما يمكن امتصاصه من ثروة البالد، لكي يكونوا يفضل هذه الثروة ويفضل جيش وأسطول قويين في مركز يسمح لهم يلعب الدور الأول في سياسة البحر الأبيض المتوسط الدولية، أي أن البطالمة لم يروا في مصر سوى المصدر الأول لثروتهم، أما كل أغراض سياستهم فإنها كانت موجهة إلى أهداف خارج مصر كلية. ومعنى ذلك أن فيلكن يرى أن سياسة البطالمة الخارجية كانت سياسة استعمارية هجومية ترمي إلى استخدام موارد مصر في تكوين إمبراطورية في البحر الأبيض المتوسط.
ويرى روستوفزف (Rostovtzeff) أن هدف البطالمة الأساسي كان إنشاء دولة غنية قوية في مصر، بحيث تستطيع الذود عن استقلالها وسلامتها من الاعتداءات الخارجية، وأن ضمان هذا الاستقلال وهذه السلامة ثان يقتضي السيطرة على الطرق البحرية المؤدية إلى مصر. ولما كان الفوز بهدف السيطرة يستلزم أسطولاً قويًا، وكانت موارد مصر الطبيعية قاصرة عن الوفاء بالاحتياجات الضرورية لتشييد مثل هذا الأسطول وصيانته، فإنه كان يتعين الحصول على الأخشاب والمعادن اللازمة من الخارج. وقد كانت الطريقة المثلى لضمان الحصول على هذه الضروريات هي الاستيلاء على بعض الأقاليم الغنية بالأخشاب والمعادن. وهذا يفسر سبب حرص البطالمة على ضم سوريا وقبرص، وكذلك بعض الأقاليم في أسيا الصغرى، وبخاصة لوقيا (Lycia). وبطبيعة الحال كان الاستيلاء على هذا الأقاليم يتطلب جيشًا قويًا.
ولما كانت قوة مصر تتوقف على ثروتها بسبب ما تتكلفه الجيوش والأساطيل من نفقات طائلة، وكانت ثروة مصر تعتمد على انتظام تجارتها الخارجية واتساع نطاقها، فإنه يتبين بجلاء أنه لم يكن في السيطرة على الطرق البحرية ضمان استقلال مصر السياسي فحسب بل كذلك ضمان استقلالها الاقتصادي. ومعنى ذلك أن روستوفتزف يرى أن سياسة البطالمة الأوائل كانت سياسة استعمارية، إلا أنها كانت دفاعية اقتصادية بحتًا ترمي إلى تكوين إمبراطورية لضمان سلامة مصر وثروتها. وقبل أن نبدي رأينا في سياسة البطالمة الأوائل الخارجية، سنستعرض في إيجاز يسير ما قام به أولئك البطالمة ونستخلص من ذلك سياستهم الخارجية.
1- بطلميوس الأول (سوتر Soter المنقذ)
بطليموس الاول
ويجدر بنا أن نلقي نظرة عاجلة على مؤسس أسرة البطالمة، لنتعرف على أصله وشيء من صفاته وخاصله قبل أن نتناول دراسة سياسته والدور الهام الذي لعبه في تاريخ العالم الهلينيسي.
أصله ونشأته:
ويخيم على أصل بطلميوس (Ptolemaios) ظلام كثيف أفسح المجال لنسج كثير من القصص حوله، لكننا نعرف على الأقل أن أبويه يدعيان لاجوس (Lagos) وأرسينوي (Arsinoe) وأخاه يدعى منلاوس (Memelanos)، وأنه تربى في قصر فيليب الثاني مع فتيان القصر (Basilikof Paides) مما يؤيد أنه كان سليل أحد الأسر النبيلة، ويفسر ما نشأ بينه وبين الإسكندر من صداقة يرى بعض المؤرخين أن متملقي ملك مصر قد بالغوا في الإشادة بها. وعلى كل حال فإن بطلميوس ظاهر الإسكندر في النزاع الذي نشب بينه وبين أبيه، وإذا كان ذلك قد أثار عليه نقمة فيليب الثاني فإنه أكسبه عرفان الإسكندر وتقديره فجعله من المقربين إليه. وقد كان بطلميوس يكبر الإسكندر في السن بأكثر من عشر سنوات، إذ كان يبلغ حوالي الثالثة والثلاثين عندما بدأت حرب الإسكندر الأكبر ضد الفرس، وحوالي الرابعة والأربعين عندما أقيم واليًا على مصر.
صفاته:
ونرى في نصاوير بطلميوس على نقوده رأساً ذات جبهة عريضة عالية، وحاجيين بارزين، وعينين غائرتين، وأنف أشم، وشفتين حازمتين، وذقن قوى، وهي كلها ملامح تنم عن النشاط والقوة، وتشف عن أصل عريق وروح حربي، وتتمثل فيها عظمة طبيعية خالية من التكلف.
وقد سبر بطلميوس غور الحروب في ميادين شتى، إذ أنه من المحتمل جدًا أن عرفته ساحات بلاد الإغريق وضفاف الطونة في أثناء الحملات التي قام بها الإسكندر في أوربا لوضع الأمور في نصابها قبل أن يهاجم الفرس لكننا لا نسمع عن بطلميوس إلا في عام 331 عند الاستيلاء على الممر الفارسي المنبع، الذي يعرف باسم "الأبواب الفارسية" حيث كان يقود قوة تتألف من 3000 محارب، وهي قوة هامة في جيش قوامه 30.000 رجل تقريبًا. وفي خريف عام 330 رقي إلى هيئة السبعة، التي كانت تحيط بالإسكندر وتؤلف حرسه الخاص ومجلسه الأعلى. ومنذ ذلك الوقت عهد إليه بمهام خطيرة، أظهر في مضمارها حزمًا نادرًا، وفي أزماتها هدوءًا غير عادي، وفي مواقفها شجاعة جديرة بالإسكندر نفسه.
ويبدو لنا أنه قد كان لبطلميوس دائمًا مكانة سامية في نفوس الجنود، فقد كانوا يبادلونه الحب والاحترام، ويحسون فيه ما أحسوه في أنفسهم من التمسك الشديد بالتقاليد المقدونية وراء العادات الجديدة التي طغت على الإسكندر وبعض رفاقة في أثناء الفتوحات الأسيوية. حقًا لقد كان بطليموس وفيًا ومطيعًا لمليكه إلى أقصى حدود الوفاء والطاعة، لكنه لم يذعن على الإطلاق إلى الدافع الذي استهوى الإسكندر نحو الشرقيين.
وإذا كان بطلميوس وفيًا ومطيعًا لمليكه إلى أقصى حدود الوفاء والطاعة، لكنه لم يذعن على الإطلاق إلى الدافع الذي استهوى الإسكندر نحو الشرقيين. وإذا كان بطلميوس قد صدع للأمر الملكي وتزوج ارتاقاما (Artacama) ابنة الوالي الفارسي ارتاباتزوس (Artabazus) عندما تزوج الإسكندر نفسه في ربيع 324 من بارسيني ابنة دارا الثالث، وأمر ثمانين من رفاقه باتخاذ زوجات فارسيات، وأقام حفلاً عامًا لكل المقدونيين والإغريق الذين كانوا قد اتضخوا زوجات شرقيات وقدم لهم هدايا مناسبة، وكان عددهم يبلغ 10.000 وفقًا لرواية أريانوس و9000 وفقًا لرواية يلوتارخ.
فلا شك في أن بطلميوس لم يستبق زوجة الشرقية بعد وفاة الإسكندر. وقد كان إسراف الإسكندر في القصف واللهو غريبًا عن طباع بطلميوس، الذي حاول دون جدوى تفادي وقوع حادث محزن ليلة شرب الإسكندر حتى ثمل هو وبعض الرفاق ثم نشب خلاف بينه وبين صديقه الحميم قلايتوس (Cleitos). وقد أفلح بلطميوس أول الأمر في إخراج قلايتوس من القاعة لكن هذا التعس، وقد تملكه الغضب ولعبت الخمر بليه، عاد إليها ثانية يتحدى الإسكندر، فطعنه الإسكندر طعنة نجلاء.
ويبدو لنا جانب آخر من صفات بطلميوس في مذكراته، ويحتمل أنه كتبها في شيخوخته. وتتجاوب أصداء هذه المذكرات فيما كتبه أريانوس (Arrianos) في القرن الثاني للمسيح. ويحدثنا هذا المؤرخ أيضاً، لأن كليهما رافق الإسكندر، ولأن بطلميوس بوصفه ملكًا كان يشينه الكذب أكثر مما يشين أي رجل آخر. ويبدو لنا أن بطلميوس كان فيما كتبه رجلاً عسكريًا قبل كل شيء، شغلة الشاغل هو عرض تفاصيل مستفيضة للأعمال الحرية والمعارك، وشرح الدور الذي لعبه الضابط والجنود. ويمتاز بطلميوس فيما كتبه بميله إلى حق حقه وفي إظهار الإسكندر كما كان في ثوبه الحقيقي. وإذا كان كتاب أريانوس أبعد من أن يعطينا صورة شاملة عن بطلميوس، فإن أعمال هذا العاهل تتكشف عن عبقرية سياسية ذات دهاء وصبر وحزم، ويشيد أريابوس برقته، لكنه يجب ألا نستخلص من ذلك أنه كان يعجز عن أن يأمر باتخاذ إجراءات قاسية بل دموية.
ولما كانت تلذ لبطلميوس صحبة العلماء والأدباء، وكان قد فطن إلى أنه بقدر ما كانت القوة ضرورية للذود عن حياض دولته كانت رعاية العلم والفن أنجع وسيلة تكسبه وسلالته المجد والخلود، فإنه أخذ يدعو إلى الإسكندرية الكثيرين من شعراء الإغريق وأدبائهم وفلاسفتهم إلى الإسكندرية الكثيرين من شعراء الإغريق وأدبائهم وفلاسفتهم وقنانيهم. وكان في طليعة ضيوفه دمتربوس الفليرى، ويحتمل أنه هو الذي أوحى إلى بطلميوس بإنشاء دار العلم والمكتبة.
وكانت تلذ له أيضًا مخالطة النساء، فقد كانت له حظيات كثيرات لعل أشهرهن كانت سيدة أثينية تدعى تاييس (Thais)) وحوالي عام 322 عقد بطلميوس مصاهرة سياسية مع القائد الكبير أنتيباتروس بزواجه من يوروديقي (Eurydike)، أبنة هذا القائد، وأنجبت هذه السيدة لبطلميوس ابنتين وابنين على الأقل، ويرجح أن أكبر هذين الابنين هو الذي لقب فيما بعد باسم قراونوس (Keraunos = الصاعقة). وحوالي عام 316 تزوج بطلميوس للمرة الثالثة وإنما بدافع الحب من برنيقي (Berenike))، وكانت سيدة مقدونية أتتت إلى مصر في حاشية يوروديقي وسبق لها أن تزوجت وأنجبت من زوجها الأول ثلاثة أولاد. وقد أنجبت برنيقي من بلطميوس طفلين، هنا أرسينوي وبطلميوس، الذي أصبح فيما بعد بطلميوس الثاني، ويحتمل أن فيلوترا (Philotera) كانت أيضاً ابنة برنيقي من بطلميوس الثاني. ويحتمل أن فيلوترا (philotera) كانت أيضاً ابنة برنيقي من بطلميوس الأول. ولم تكن لبطلميوس الأول، قبل زواجه الثالث، زوجات شرعيات في مصر عدا يوروديقي. ولا تحدثنا المصادر القديمة هل طلق بطلميوس يوروديقي قبل زواجه من برنيقي، أم أنه استيقاها بعد هذا الزواج، على أننا نعرف أنه باستثناء بطلميوس الثامن يورجتيس الثاني، لم يكن لأحد من خلفائه أكثر من زوجة شرعية واحدة في وقت واحد، وفقًا للعادة المتبعة بين الإغريق. بيد أن تعدد الزوجات كان شائعًا فيما يبدو بين ملوك مقدونيا قبل عصر الإسكندر، بل إنه كان لاثنين من ملوكها في العصر الهيلنيسي، وهما دمتريوس الأول وبوروس (Pyrrhos) أكثر من زوجة واحدة في وقت واحد. فهل احترم بطلميوس العرف السائد بين الإغريق أم أن نعرته المقدونية دفعته إلى مسايرة ملوك مقدونيا؟ هذا ما لا نستطيع الفصل فيه على ضوء ما لدينا من المعلومات. والشواهد التي يستخلص منها أن بطلميوس الأول عندما حط رحاله في مصر تزوج سيدة مصرية من سلالة تقتانيو لا تبرر مثل هذا الزعم. ولو صح ذلك لكان معناه أن بطلميوس افتقى أثر فراعنة مصر القدماء الذين أسسوا أسرًا جديدة بالزواج من سيدة وطنية يتصل أصلها بملوك البلاد الأصليين، وذلك ليصبغ حكمه بصبغة شرعية في نظر المصريين، لكن الراجح أنه لم يفعل ذلك بل أنه لم تكن له حظية مصرية، فقد سلف القول أن تاييس كانت أثينية ولم تكن مصرية.
مصر محط آمال بطلميوس
يخالج أحد الشك في أن مصر كانت محط آمال بطلميوس بن لاجوس، حتى أنه ليحتمل أنه قد كانت هناك اتفاقية بينه وبين برديقاس تقضي بأن يستخدم هذا نفوذه لتولية بطلميوس على مصر لقاء اعتراف الأخير بمركز الأول. ولذلك ضحى برديقاس بقليومنيس النقراطيسي بالرغم من أنه كان صديقه الوفي، واضطر قليومنيس إلى أن يقنع بالمكان الثاني في مصر بوصفه مساعدًا (hyparchos) لبطلميوس. ويمكننا أن نلمس اهتمام بطلميوس بمصر فيما ضمته مذكراته من التفاصيل الدقيقة عن حملة الإسكندر على مصر وعن رحلته إلى واحة آمون. ولعل شغف بطلميوس بمصر يرجع إلى ثاقب فكره وحسن تقديره للموقف، فقد تنبأ بالحروب المقبلة بين قواد الإسكندر، تلك الحروب التي كانت لابد من أن تتتهدد سلامة ولايات الإمبراطورية القريبة من ميادينها، في حين أن مصر لم تكن بعيدة عن هذه الميادين فحسب وبذلك تأمن شرها، بل بعيدة كذلك عن بابل ومقدونيا، وهما الأقليمان اللذان كانا يمكن أن يصبح أحدهما مقرًا للإمبراطورية المقدونية، بذلك يضمن بطلميوس استقلاله بولايته. وإذا أضفنا إلى ذلك غنى مصر بماضيها التالد وثروتها الحاضرة، فإننا نعرف لماذا أدرك بطلميوس بفطنته وبعد نظره أن بلاد الفراعنة كانت خير جزء في الإمبراطورية المقدونية يصلح لأن يشيد فيه صرح مملكة يحمل صولجانها أحفاده على تعاقب الأجيال.
أن ذلك كله يلقي ضوءًا واضحًا جليًا على صفات مؤسس أسرة البطالمة، لكننا مع الأسف لا نعرف عن بطلميوس مقدار ما نعرفه عن باقي قواد الإسكندر، وهذه خسارة فادحة تعتور معرفة هذه الفترة التي تمخضت عن حوادث جسام، ففيها كان للشخصيات القوية أثر أي أثر في تكييف مجرى التاريخ.
إعدام قليومنيس:
ولا شك في أن تعيين قليومنيس النقراطيسي مساعدًا لبطلميوس في مصر لم يشبع أطماعه، فقد كان صاحب الأمر والنهي في مصر منذ أواخر أيام الإسكندر، ولذلك كان طبيعيًا ألا يقنع بمنصبه وأن يتوقع الجميع اصطدامه مع بطلميوس. ومن ناحية أخرى لم يطمئن بطلميوس إلى وجود هذا المساعد الخطير إلى جانبه، ولا سيما أنه كان صديقًا لبرديقاس. ولعل بطلميوس قد أحس أن برديقاس أراد بتعيين قليومنيس على هذا النحو أن يكون رقيبًا عليه. ولما كانت أعز أماني بطلميوس أن يحقق استقلاله، فإن أول ما أقدم عليه عندما وفد على مصر في أواخر عام 723 ق.م. (في شهر أكتوبر أو نوفمبر) هو التخلص من فليومنيس عميل برديقاس. ذلك أن بطلميوس أصغى منشرحًا إلى شكاوي المصريين من سوء تصرفات قليومنيس وأمر بإعدامه، وصادر أمواله التي ابتزها من البلاد. وقد انفق بطلميوس هذه الأموال في اتباع خدمات عدد من الجنود المرتزقة. وسرعان ما التف حوله ضباط أكفاء مخلصون، لأن وداعته اجتذبت حوله عددًا كبيراً من الأصدقاء. وعندما قوى بطلميوس نفسه على هذا النحو كان في وسعه أن يرقب الحوادث ليتعين الفرص المناسبة لتحقيق سياسته.
فتح فورينايئة:
وقد خدمت بطلميوس الظروف التي يبدو أنها كثيرًا ما تخدم الذين يبتسم لهم الحظ. ذلك أنه لم يشترك في الحرب اللامية (323-322) التي تركت في نفوس الإغريق آلامًا مريرة، ومن ثم فإن هزيمة الإغريق في هذه الحرب وقسوة انتيباتروس دنتا عددًا كبيرًا من الإغريق إلى الهجرة إلى مصر ليعيشوا في كنف بطلميوس "الوديع"، الذي وضعت الظروف على هذا النحو في قبضته قوات كبيرة كان في أشد الحاجة إليها. ومن ناحية أخرى وأنت بطلميوس فرصة فريدة في أواخر عام 323 عندما اندلع لهيب الثورة في قوريني (Cyrene)، وكانت هذه المدينة وجاراتها برقة (المرج) وطوخبرة (طوكرة) ويوسبريدس (بنغازي)، أي المدن الإغريقية في قورينايئة (Cyrenaica)، قد أصبح شأنها منذ سقوط أسرة باتوس حوالي عام 440 شأن مدن بلاد الإغريق فريسة للتطاحن الحزبي، ونهيا للصراع بين بعضها بعضًا. وفي صدر الثلث الأخير من القرن الرابع جذبت هذه الاضطرابات إلى قورينايئة الكثيرين ممن يبحثون وراء المخاطر مثل ثييرون (Thibron) الأسبرطى الذي نجح في إخضاع قوريني والفوز بمحالفة المدن الأخرى. وحين بدا له أن الأمور كانت سائرة على نحو ما يشتهي تغيير الموقف فجأة نتيجة لخلافه مع قائده الكريتي مناسيقلس (Manasicles). ذلك أن هذا الكريتي المغامر شجع قوريني على الخروج على ثيبرون الذي لم يلبث أن تحرج مركزه تحرجًا شديدًا إلى أن استحضر من بلاد الإغريق امدادات من المرتزقة، فحاصر قوريني حصاراً شديدًا. وعندما ساءت الحالة في المدينة بسبب قلة الطعام ثار العامة وطردوا الأغنياء منها، فجلأ بعض الأغنياء المنفيين إلى ثيبرون، ولجأ البعض الآخر إلى مصر يستنجدون بطلميوس، وبادر والي مصر بإرسال رفيقه أوفلاس (Ophellas) الأولونثى على رأس قوة برية وبحرية إلى قورينايئة.
وإزاء هذا الخطر تآلف ثيبرون ومناسيقليس، لكن أوفلاس هزمهما وألقى القبض على ثيبرون وصلبه، واستولى على كل مدن قورينايئة. وعندئذ جاء بطلميوس بنفسه إلى قورينايئة في أواخر عام 322 وأقام أوفلاس حاكمًا عليها. وتوجد اليوم في متحف شحات (قديمًا قوربني) لوحة من الرخام كشفت عنها حفائر البعثة الإيطالية بين أطلال قوريني. وقد نقشت على هذه اللوحة نصوص دستور يتألف من خمس عشرة مادة. ولسوء الحظ أن معالم الجزء الأخير من هذا الدستور غير واضحة، وأسوأ من ذلك ضياع ديباجة الدستور مما أفضى إلى اختلاف الباحثين في الرأي حول مسألتين رئيستين، واحدهما هي: من كان الملك البطلمي الذي أصدر أو أقر هذا الدستور. والمسألة الثانية هي: هل كان هذا الدستور لمدينة قوريني فقط أم أنه كان دستورًا لقورينايئة كلها. وستأتي مناقشة هاتين المسألتين عند عرض هذا الدستور ومناقشته في سياق الحديث عن نظم الحكم في المدن الإغريقية في ممتلكات البطالمة الخارجية. وحسبنا الآن القول بأن القرائن نوحي بأن بطلميوس الأول هو الذي أصدر هذا الدستور لمدينة قوريني حين كان لا يزال واليًا، أي قبل أن يتخذ لقب ملك في عام 305.
وقد كان لاستيلاء حاكم مقدوني على فورينايئة بمدنها الإغريقية التي تمتعت بالحكم الجمهوري زهاء قرن من الزمان وكانت من بينها جمهورية ذائعة الصيت مثل قوريني، أثر بعيد المدى في العالم الإغريقي. ومع ذلك يبدو أنه لم يكن فيما أقدم عليه بطلميوس أي اعتداء على قرارات مؤتمر بابل، فقد كان إسناد حكم مصر إليه يتضمن حكم ليبيًا (أو بعبارة أدق قورينايئة) وكذلك الأقاليم الشرقية المتاخمة بوصفها جميعًا حدود مصر الطبيعية. وكل ما فعله بطلميوس هو أنه أظهر بجلاء لا لبس فيه عزمه على المحافظة على حقوقه كاملة ودعم حدود ولايته الطبيعية وقد أنجبت قوريني لمصر البطلمية بعض مشاهير الرجال، مثل قاليماخوس (Callimachos) الشاعر واراتوسشنيس (Eratoshenes) الجغرافي، وعددًا غير قليل من الجنود.
سياسة البطالمة الخارجية من عام 323 حتى عام 217 ق.م :
أن سياسة البطالمة الداخلية على وجهها الصحيح يقتضي البدء بدراسة سياستهم الخارجية، وذلك لأن النظم التي وضعها البطالمة لحكم مصر تأثرت إلى حد بعيد بالدور الذي أرادوا أن يلعبوه في العالم. ولما كنا تفتقر إلى أدلة مباشرة على سياسة البطالمة الخارجية، فإننا سنحاول استخلاص هذه السياسة من دراسة الحقائق التاريخية. ويجب أن نشير إلى أن الغموض الذي يكتف هذه الحقائق قد أدى إلى اختلاف العلماء في تفسيرها.
فيرى كورنمان (Kornemann) أن البطالمة الأوائل كانوا يطمحون إلى بسط سلطاتهم على جميع العالم المأهول، أي أنهم كانوا كالإسكندر الأكبر يطمحون إلى تكوين إمبراطوية عالمية.
ويرى فيلكن (Wilcken) أن البطالمة كانوا يرمون من وراء حكم مصر إلى امتصاص كل ما يمكن امتصاصه من ثروة البالد، لكي يكونوا يفضل هذه الثروة ويفضل جيش وأسطول قويين في مركز يسمح لهم يلعب الدور الأول في سياسة البحر الأبيض المتوسط الدولية، أي أن البطالمة لم يروا في مصر سوى المصدر الأول لثروتهم، أما كل أغراض سياستهم فإنها كانت موجهة إلى أهداف خارج مصر كلية. ومعنى ذلك أن فيلكن يرى أن سياسة البطالمة الخارجية كانت سياسة استعمارية هجومية ترمي إلى استخدام موارد مصر في تكوين إمبراطورية في البحر الأبيض المتوسط.
ويرى روستوفزف (Rostovtzeff) أن هدف البطالمة الأساسي كان إنشاء دولة غنية قوية في مصر، بحيث تستطيع الذود عن استقلالها وسلامتها من الاعتداءات الخارجية، وأن ضمان هذا الاستقلال وهذه السلامة ثان يقتضي السيطرة على الطرق البحرية المؤدية إلى مصر. ولما كان الفوز بهدف السيطرة يستلزم أسطولاً قويًا، وكانت موارد مصر الطبيعية قاصرة عن الوفاء بالاحتياجات الضرورية لتشييد مثل هذا الأسطول وصيانته، فإنه كان يتعين الحصول على الأخشاب والمعادن اللازمة من الخارج. وقد كانت الطريقة المثلى لضمان الحصول على هذه الضروريات هي الاستيلاء على بعض الأقاليم الغنية بالأخشاب والمعادن. وهذا يفسر سبب حرص البطالمة على ضم سوريا وقبرص، وكذلك بعض الأقاليم في أسيا الصغرى، وبخاصة لوقيا (Lycia). وبطبيعة الحال كان الاستيلاء على هذا الأقاليم يتطلب جيشًا قويًا.
ولما كانت قوة مصر تتوقف على ثروتها بسبب ما تتكلفه الجيوش والأساطيل من نفقات طائلة، وكانت ثروة مصر تعتمد على انتظام تجارتها الخارجية واتساع نطاقها، فإنه يتبين بجلاء أنه لم يكن في السيطرة على الطرق البحرية ضمان استقلال مصر السياسي فحسب بل كذلك ضمان استقلالها الاقتصادي. ومعنى ذلك أن روستوفتزف يرى أن سياسة البطالمة الأوائل كانت سياسة استعمارية، إلا أنها كانت دفاعية اقتصادية بحتًا ترمي إلى تكوين إمبراطورية لضمان سلامة مصر وثروتها. وقبل أن نبدي رأينا في سياسة البطالمة الأوائل الخارجية، سنستعرض في إيجاز يسير ما قام به أولئك البطالمة ونستخلص من ذلك سياستهم الخارجية.
1- بطلميوس الأول (سوتر Soter المنقذ)
بطليموس الاول
ويجدر بنا أن نلقي نظرة عاجلة على مؤسس أسرة البطالمة، لنتعرف على أصله وشيء من صفاته وخاصله قبل أن نتناول دراسة سياسته والدور الهام الذي لعبه في تاريخ العالم الهلينيسي.
أصله ونشأته:
ويخيم على أصل بطلميوس (Ptolemaios) ظلام كثيف أفسح المجال لنسج كثير من القصص حوله، لكننا نعرف على الأقل أن أبويه يدعيان لاجوس (Lagos) وأرسينوي (Arsinoe) وأخاه يدعى منلاوس (Memelanos)، وأنه تربى في قصر فيليب الثاني مع فتيان القصر (Basilikof Paides) مما يؤيد أنه كان سليل أحد الأسر النبيلة، ويفسر ما نشأ بينه وبين الإسكندر من صداقة يرى بعض المؤرخين أن متملقي ملك مصر قد بالغوا في الإشادة بها. وعلى كل حال فإن بطلميوس ظاهر الإسكندر في النزاع الذي نشب بينه وبين أبيه، وإذا كان ذلك قد أثار عليه نقمة فيليب الثاني فإنه أكسبه عرفان الإسكندر وتقديره فجعله من المقربين إليه. وقد كان بطلميوس يكبر الإسكندر في السن بأكثر من عشر سنوات، إذ كان يبلغ حوالي الثالثة والثلاثين عندما بدأت حرب الإسكندر الأكبر ضد الفرس، وحوالي الرابعة والأربعين عندما أقيم واليًا على مصر.
صفاته:
ونرى في نصاوير بطلميوس على نقوده رأساً ذات جبهة عريضة عالية، وحاجيين بارزين، وعينين غائرتين، وأنف أشم، وشفتين حازمتين، وذقن قوى، وهي كلها ملامح تنم عن النشاط والقوة، وتشف عن أصل عريق وروح حربي، وتتمثل فيها عظمة طبيعية خالية من التكلف.
وقد سبر بطلميوس غور الحروب في ميادين شتى، إذ أنه من المحتمل جدًا أن عرفته ساحات بلاد الإغريق وضفاف الطونة في أثناء الحملات التي قام بها الإسكندر في أوربا لوضع الأمور في نصابها قبل أن يهاجم الفرس لكننا لا نسمع عن بطلميوس إلا في عام 331 عند الاستيلاء على الممر الفارسي المنبع، الذي يعرف باسم "الأبواب الفارسية" حيث كان يقود قوة تتألف من 3000 محارب، وهي قوة هامة في جيش قوامه 30.000 رجل تقريبًا. وفي خريف عام 330 رقي إلى هيئة السبعة، التي كانت تحيط بالإسكندر وتؤلف حرسه الخاص ومجلسه الأعلى. ومنذ ذلك الوقت عهد إليه بمهام خطيرة، أظهر في مضمارها حزمًا نادرًا، وفي أزماتها هدوءًا غير عادي، وفي مواقفها شجاعة جديرة بالإسكندر نفسه.
ويبدو لنا أنه قد كان لبطلميوس دائمًا مكانة سامية في نفوس الجنود، فقد كانوا يبادلونه الحب والاحترام، ويحسون فيه ما أحسوه في أنفسهم من التمسك الشديد بالتقاليد المقدونية وراء العادات الجديدة التي طغت على الإسكندر وبعض رفاقة في أثناء الفتوحات الأسيوية. حقًا لقد كان بطليموس وفيًا ومطيعًا لمليكه إلى أقصى حدود الوفاء والطاعة، لكنه لم يذعن على الإطلاق إلى الدافع الذي استهوى الإسكندر نحو الشرقيين.
وإذا كان بطلميوس وفيًا ومطيعًا لمليكه إلى أقصى حدود الوفاء والطاعة، لكنه لم يذعن على الإطلاق إلى الدافع الذي استهوى الإسكندر نحو الشرقيين. وإذا كان بطلميوس قد صدع للأمر الملكي وتزوج ارتاقاما (Artacama) ابنة الوالي الفارسي ارتاباتزوس (Artabazus) عندما تزوج الإسكندر نفسه في ربيع 324 من بارسيني ابنة دارا الثالث، وأمر ثمانين من رفاقه باتخاذ زوجات فارسيات، وأقام حفلاً عامًا لكل المقدونيين والإغريق الذين كانوا قد اتضخوا زوجات شرقيات وقدم لهم هدايا مناسبة، وكان عددهم يبلغ 10.000 وفقًا لرواية أريانوس و9000 وفقًا لرواية يلوتارخ.
فلا شك في أن بطلميوس لم يستبق زوجة الشرقية بعد وفاة الإسكندر. وقد كان إسراف الإسكندر في القصف واللهو غريبًا عن طباع بطلميوس، الذي حاول دون جدوى تفادي وقوع حادث محزن ليلة شرب الإسكندر حتى ثمل هو وبعض الرفاق ثم نشب خلاف بينه وبين صديقه الحميم قلايتوس (Cleitos). وقد أفلح بلطميوس أول الأمر في إخراج قلايتوس من القاعة لكن هذا التعس، وقد تملكه الغضب ولعبت الخمر بليه، عاد إليها ثانية يتحدى الإسكندر، فطعنه الإسكندر طعنة نجلاء.
ويبدو لنا جانب آخر من صفات بطلميوس في مذكراته، ويحتمل أنه كتبها في شيخوخته. وتتجاوب أصداء هذه المذكرات فيما كتبه أريانوس (Arrianos) في القرن الثاني للمسيح. ويحدثنا هذا المؤرخ أيضاً، لأن كليهما رافق الإسكندر، ولأن بطلميوس بوصفه ملكًا كان يشينه الكذب أكثر مما يشين أي رجل آخر. ويبدو لنا أن بطلميوس كان فيما كتبه رجلاً عسكريًا قبل كل شيء، شغلة الشاغل هو عرض تفاصيل مستفيضة للأعمال الحرية والمعارك، وشرح الدور الذي لعبه الضابط والجنود. ويمتاز بطلميوس فيما كتبه بميله إلى حق حقه وفي إظهار الإسكندر كما كان في ثوبه الحقيقي. وإذا كان كتاب أريانوس أبعد من أن يعطينا صورة شاملة عن بطلميوس، فإن أعمال هذا العاهل تتكشف عن عبقرية سياسية ذات دهاء وصبر وحزم، ويشيد أريابوس برقته، لكنه يجب ألا نستخلص من ذلك أنه كان يعجز عن أن يأمر باتخاذ إجراءات قاسية بل دموية.
ولما كانت تلذ لبطلميوس صحبة العلماء والأدباء، وكان قد فطن إلى أنه بقدر ما كانت القوة ضرورية للذود عن حياض دولته كانت رعاية العلم والفن أنجع وسيلة تكسبه وسلالته المجد والخلود، فإنه أخذ يدعو إلى الإسكندرية الكثيرين من شعراء الإغريق وأدبائهم وفلاسفتهم إلى الإسكندرية الكثيرين من شعراء الإغريق وأدبائهم وفلاسفتهم وقنانيهم. وكان في طليعة ضيوفه دمتربوس الفليرى، ويحتمل أنه هو الذي أوحى إلى بطلميوس بإنشاء دار العلم والمكتبة.
وكانت تلذ له أيضًا مخالطة النساء، فقد كانت له حظيات كثيرات لعل أشهرهن كانت سيدة أثينية تدعى تاييس (Thais)) وحوالي عام 322 عقد بطلميوس مصاهرة سياسية مع القائد الكبير أنتيباتروس بزواجه من يوروديقي (Eurydike)، أبنة هذا القائد، وأنجبت هذه السيدة لبطلميوس ابنتين وابنين على الأقل، ويرجح أن أكبر هذين الابنين هو الذي لقب فيما بعد باسم قراونوس (Keraunos = الصاعقة). وحوالي عام 316 تزوج بطلميوس للمرة الثالثة وإنما بدافع الحب من برنيقي (Berenike))، وكانت سيدة مقدونية أتتت إلى مصر في حاشية يوروديقي وسبق لها أن تزوجت وأنجبت من زوجها الأول ثلاثة أولاد. وقد أنجبت برنيقي من بلطميوس طفلين، هنا أرسينوي وبطلميوس، الذي أصبح فيما بعد بطلميوس الثاني، ويحتمل أن فيلوترا (Philotera) كانت أيضاً ابنة برنيقي من بطلميوس الثاني. ويحتمل أن فيلوترا (philotera) كانت أيضاً ابنة برنيقي من بطلميوس الأول. ولم تكن لبطلميوس الأول، قبل زواجه الثالث، زوجات شرعيات في مصر عدا يوروديقي. ولا تحدثنا المصادر القديمة هل طلق بطلميوس يوروديقي قبل زواجه من برنيقي، أم أنه استيقاها بعد هذا الزواج، على أننا نعرف أنه باستثناء بطلميوس الثامن يورجتيس الثاني، لم يكن لأحد من خلفائه أكثر من زوجة شرعية واحدة في وقت واحد، وفقًا للعادة المتبعة بين الإغريق. بيد أن تعدد الزوجات كان شائعًا فيما يبدو بين ملوك مقدونيا قبل عصر الإسكندر، بل إنه كان لاثنين من ملوكها في العصر الهيلنيسي، وهما دمتريوس الأول وبوروس (Pyrrhos) أكثر من زوجة واحدة في وقت واحد. فهل احترم بطلميوس العرف السائد بين الإغريق أم أن نعرته المقدونية دفعته إلى مسايرة ملوك مقدونيا؟ هذا ما لا نستطيع الفصل فيه على ضوء ما لدينا من المعلومات. والشواهد التي يستخلص منها أن بطلميوس الأول عندما حط رحاله في مصر تزوج سيدة مصرية من سلالة تقتانيو لا تبرر مثل هذا الزعم. ولو صح ذلك لكان معناه أن بطلميوس افتقى أثر فراعنة مصر القدماء الذين أسسوا أسرًا جديدة بالزواج من سيدة وطنية يتصل أصلها بملوك البلاد الأصليين، وذلك ليصبغ حكمه بصبغة شرعية في نظر المصريين، لكن الراجح أنه لم يفعل ذلك بل أنه لم تكن له حظية مصرية، فقد سلف القول أن تاييس كانت أثينية ولم تكن مصرية.
مصر محط آمال بطلميوس
يخالج أحد الشك في أن مصر كانت محط آمال بطلميوس بن لاجوس، حتى أنه ليحتمل أنه قد كانت هناك اتفاقية بينه وبين برديقاس تقضي بأن يستخدم هذا نفوذه لتولية بطلميوس على مصر لقاء اعتراف الأخير بمركز الأول. ولذلك ضحى برديقاس بقليومنيس النقراطيسي بالرغم من أنه كان صديقه الوفي، واضطر قليومنيس إلى أن يقنع بالمكان الثاني في مصر بوصفه مساعدًا (hyparchos) لبطلميوس. ويمكننا أن نلمس اهتمام بطلميوس بمصر فيما ضمته مذكراته من التفاصيل الدقيقة عن حملة الإسكندر على مصر وعن رحلته إلى واحة آمون. ولعل شغف بطلميوس بمصر يرجع إلى ثاقب فكره وحسن تقديره للموقف، فقد تنبأ بالحروب المقبلة بين قواد الإسكندر، تلك الحروب التي كانت لابد من أن تتتهدد سلامة ولايات الإمبراطورية القريبة من ميادينها، في حين أن مصر لم تكن بعيدة عن هذه الميادين فحسب وبذلك تأمن شرها، بل بعيدة كذلك عن بابل ومقدونيا، وهما الأقليمان اللذان كانا يمكن أن يصبح أحدهما مقرًا للإمبراطورية المقدونية، بذلك يضمن بطلميوس استقلاله بولايته. وإذا أضفنا إلى ذلك غنى مصر بماضيها التالد وثروتها الحاضرة، فإننا نعرف لماذا أدرك بطلميوس بفطنته وبعد نظره أن بلاد الفراعنة كانت خير جزء في الإمبراطورية المقدونية يصلح لأن يشيد فيه صرح مملكة يحمل صولجانها أحفاده على تعاقب الأجيال.
أن ذلك كله يلقي ضوءًا واضحًا جليًا على صفات مؤسس أسرة البطالمة، لكننا مع الأسف لا نعرف عن بطلميوس مقدار ما نعرفه عن باقي قواد الإسكندر، وهذه خسارة فادحة تعتور معرفة هذه الفترة التي تمخضت عن حوادث جسام، ففيها كان للشخصيات القوية أثر أي أثر في تكييف مجرى التاريخ.
إعدام قليومنيس:
ولا شك في أن تعيين قليومنيس النقراطيسي مساعدًا لبطلميوس في مصر لم يشبع أطماعه، فقد كان صاحب الأمر والنهي في مصر منذ أواخر أيام الإسكندر، ولذلك كان طبيعيًا ألا يقنع بمنصبه وأن يتوقع الجميع اصطدامه مع بطلميوس. ومن ناحية أخرى لم يطمئن بطلميوس إلى وجود هذا المساعد الخطير إلى جانبه، ولا سيما أنه كان صديقًا لبرديقاس. ولعل بطلميوس قد أحس أن برديقاس أراد بتعيين قليومنيس على هذا النحو أن يكون رقيبًا عليه. ولما كانت أعز أماني بطلميوس أن يحقق استقلاله، فإن أول ما أقدم عليه عندما وفد على مصر في أواخر عام 723 ق.م. (في شهر أكتوبر أو نوفمبر) هو التخلص من فليومنيس عميل برديقاس. ذلك أن بطلميوس أصغى منشرحًا إلى شكاوي المصريين من سوء تصرفات قليومنيس وأمر بإعدامه، وصادر أمواله التي ابتزها من البلاد. وقد انفق بطلميوس هذه الأموال في اتباع خدمات عدد من الجنود المرتزقة. وسرعان ما التف حوله ضباط أكفاء مخلصون، لأن وداعته اجتذبت حوله عددًا كبيراً من الأصدقاء. وعندما قوى بطلميوس نفسه على هذا النحو كان في وسعه أن يرقب الحوادث ليتعين الفرص المناسبة لتحقيق سياسته.
فتح فورينايئة:
وقد خدمت بطلميوس الظروف التي يبدو أنها كثيرًا ما تخدم الذين يبتسم لهم الحظ. ذلك أنه لم يشترك في الحرب اللامية (323-322) التي تركت في نفوس الإغريق آلامًا مريرة، ومن ثم فإن هزيمة الإغريق في هذه الحرب وقسوة انتيباتروس دنتا عددًا كبيرًا من الإغريق إلى الهجرة إلى مصر ليعيشوا في كنف بطلميوس "الوديع"، الذي وضعت الظروف على هذا النحو في قبضته قوات كبيرة كان في أشد الحاجة إليها. ومن ناحية أخرى وأنت بطلميوس فرصة فريدة في أواخر عام 323 عندما اندلع لهيب الثورة في قوريني (Cyrene)، وكانت هذه المدينة وجاراتها برقة (المرج) وطوخبرة (طوكرة) ويوسبريدس (بنغازي)، أي المدن الإغريقية في قورينايئة (Cyrenaica)، قد أصبح شأنها منذ سقوط أسرة باتوس حوالي عام 440 شأن مدن بلاد الإغريق فريسة للتطاحن الحزبي، ونهيا للصراع بين بعضها بعضًا. وفي صدر الثلث الأخير من القرن الرابع جذبت هذه الاضطرابات إلى قورينايئة الكثيرين ممن يبحثون وراء المخاطر مثل ثييرون (Thibron) الأسبرطى الذي نجح في إخضاع قوريني والفوز بمحالفة المدن الأخرى. وحين بدا له أن الأمور كانت سائرة على نحو ما يشتهي تغيير الموقف فجأة نتيجة لخلافه مع قائده الكريتي مناسيقلس (Manasicles). ذلك أن هذا الكريتي المغامر شجع قوريني على الخروج على ثيبرون الذي لم يلبث أن تحرج مركزه تحرجًا شديدًا إلى أن استحضر من بلاد الإغريق امدادات من المرتزقة، فحاصر قوريني حصاراً شديدًا. وعندما ساءت الحالة في المدينة بسبب قلة الطعام ثار العامة وطردوا الأغنياء منها، فجلأ بعض الأغنياء المنفيين إلى ثيبرون، ولجأ البعض الآخر إلى مصر يستنجدون بطلميوس، وبادر والي مصر بإرسال رفيقه أوفلاس (Ophellas) الأولونثى على رأس قوة برية وبحرية إلى قورينايئة.
وإزاء هذا الخطر تآلف ثيبرون ومناسيقليس، لكن أوفلاس هزمهما وألقى القبض على ثيبرون وصلبه، واستولى على كل مدن قورينايئة. وعندئذ جاء بطلميوس بنفسه إلى قورينايئة في أواخر عام 322 وأقام أوفلاس حاكمًا عليها. وتوجد اليوم في متحف شحات (قديمًا قوربني) لوحة من الرخام كشفت عنها حفائر البعثة الإيطالية بين أطلال قوريني. وقد نقشت على هذه اللوحة نصوص دستور يتألف من خمس عشرة مادة. ولسوء الحظ أن معالم الجزء الأخير من هذا الدستور غير واضحة، وأسوأ من ذلك ضياع ديباجة الدستور مما أفضى إلى اختلاف الباحثين في الرأي حول مسألتين رئيستين، واحدهما هي: من كان الملك البطلمي الذي أصدر أو أقر هذا الدستور. والمسألة الثانية هي: هل كان هذا الدستور لمدينة قوريني فقط أم أنه كان دستورًا لقورينايئة كلها. وستأتي مناقشة هاتين المسألتين عند عرض هذا الدستور ومناقشته في سياق الحديث عن نظم الحكم في المدن الإغريقية في ممتلكات البطالمة الخارجية. وحسبنا الآن القول بأن القرائن نوحي بأن بطلميوس الأول هو الذي أصدر هذا الدستور لمدينة قوريني حين كان لا يزال واليًا، أي قبل أن يتخذ لقب ملك في عام 305.
وقد كان لاستيلاء حاكم مقدوني على فورينايئة بمدنها الإغريقية التي تمتعت بالحكم الجمهوري زهاء قرن من الزمان وكانت من بينها جمهورية ذائعة الصيت مثل قوريني، أثر بعيد المدى في العالم الإغريقي. ومع ذلك يبدو أنه لم يكن فيما أقدم عليه بطلميوس أي اعتداء على قرارات مؤتمر بابل، فقد كان إسناد حكم مصر إليه يتضمن حكم ليبيًا (أو بعبارة أدق قورينايئة) وكذلك الأقاليم الشرقية المتاخمة بوصفها جميعًا حدود مصر الطبيعية. وكل ما فعله بطلميوس هو أنه أظهر بجلاء لا لبس فيه عزمه على المحافظة على حقوقه كاملة ودعم حدود ولايته الطبيعية وقد أنجبت قوريني لمصر البطلمية بعض مشاهير الرجال، مثل قاليماخوس (Callimachos) الشاعر واراتوسشنيس (Eratoshenes) الجغرافي، وعددًا غير قليل من الجنود.
يسري حماده- عضو متميز
-
عدد الرسائل : 287
العمر : 55
العمل/الترفيه : الرياضيات
المزاج : الحمد لله
نقاط : -1
تاريخ التسجيل : 06/10/2008
رد: بطليموس الاول
برديقاس يشير مخاوف الولاة:
وليس من شك في أن اتساع نفوذ بطلميوس لم يرض برديقاس، إذ أن ذلك كان شاهدًا قويًا على أن بلطميسو لا ينوي أن يسلس له القياد، بل يعتزم أن يختط لنفسه سياسة مستقلة. ولم تكن القطيعة محتومة بين برديقاس وبطلميوس فحسب، لأن الأطماع الجامحة الت يكانت تجيش في صدر برديقاس أثارت حفيظة الكثيرين ضده، وتمخضت عنها الحوادث الجسام التي أفضت إلى تفكك عرى الإمبراطورية المقدونية. وفي الواقع لم يكن يشير الاحتاظ بوحدة تلك الإمراطورية المترامية الأطراف إلا بنفوذ ملك قوى، وأما في ذلك الوقت فإنه لم يمثل الملكية إلا شخص مجرح ضعيف العقل وطفل رضيع أنجبته سيدة شرقية. ولذلك كان برديقاس هو صاحب الكلمة العليا في الإمبراطورية، لكنه كان عليه أن يدخل في حسابه أطماع أولومبياس أم الإسكندر وكليوباترة أخته وآديا خطيبة فيليب أرهيدايوس، وكذلك غيرة كبار القواد وميولهم الاستقلالية. وقد كان أكثر منافسي برديقاس خطرًا أنتيباتروس وقراتروس، اللذان لم يعترفا بالمركز الذي اغتصبه لنفسه، وكذلك ليوناتوس الذي كان يطمع في عرض مقدونيا، ولاسيما أن كليوبترة كانت تمنيه بالزواج منها، لكن الحرب اللامية خلصت برديقاس مؤقتًا من هذه التهديدات لأنها شلت حركة أنتيباتروس وقرانروس وأودت بحياة ليوناتوس. وقد استغل برديقاس فرصة حرية العمل التي أتاحتها له الحرب اللامية ليتم فتح آسيا الصغرى، إذ أنه أخضع أرمينياً وبيسيديا وأساوريا وقابادوقيا. حقًا أن برديقاس أحرز انتصرات باهرة، إلا أن عصيان بعض الولاة كان واضحًا للعيان، فإنه عندما أسند هذه المهمة إلى ليوناتوس وأنتيجونوس آثر الأول الذهاب لنجدة أنتيباتروس ورفض الثاني تنفيذ ما صدر إليه من أوامر.
تكوين حلف ضد برديقاس:
وقد قوت انتصارات برديقاس مركزه إلى حد أن جيشه أقامه وصيًا على الملكين، أو بعبارة أصح اعترف الجيش بالمركز الذي ادعاه برديقاس لنفسه منذ مؤتمر بابل. وكان من شأن ذلك إثارة قلق أنتيباتروس. مما حد ببرديقاس إلى تهدئة روعة بالزواج من ابنته نيقايا (Nicaea) في صيف عام 322. ولا جدال في أن هذه المصاهرة أقضت مضاجع أولومبياس بما أضفته على مركز خصمها أنتيباتروس من القوة فصمت على حرمانه ذلك بأ، عرضت على برديقاس الزواج من ابنتها كليوبترة. وبعد شيء من التردد طلق برديقاس نيقايا وأخذ يتودد إلى كليوبترة. وبعد شيء من التردد طلق برديقاس نيقايا وأخذ يتودد إلى كليوبترة للفوز بيدها، لكنه لم يفز إلا باغضاب أنتيباتروس وتغذية الشائعة القائلة بأنه يتطلع إلى اغتصاب العرش. وإذا كان من العسير تبرأة برديقاس من هذه الأطماع، فإنه من العسير كذلك أن تتصور إمكان مجازفته بمخاطرة اغتصاب العرش عندئذ لأنها كانت ستشير عليه حتمًا كل الجيوش المقدونية، فقد كانت لا تزال تظهر أشد الولاء لأسرة الإسكندر ـ وسنرى الآن دليلاً قويًا على ذلك ـ ولأنه لم يكن هناك داع يبرر التعجل في الأقدام على هذه الخطوة، إذ أن وصيًا على العرش يقوم على رأس الجيش كان ملكًا في كل شيء ما عدا اللقب.
وبعد ذلك بقليل برحت قيناني مقدونيا لتزوج ابنتها آديا من فيليب، وقد عجز برديقاس عن منعهما بالقوة من الوصول إلى آسيا إلا أنه دبر مقبل قيناني، لكن الجيش أرغمه على الموافقة على زواج فيليب م ن آديا التي اتخذت منذ ذلك الوقت اسم يوروديقي. ومع أنها كانت في الرابعة عشرة من عمرها، إلا أنها كانت مصممة على ألا تدع أحدًا يغتصب حقوق التاج. وعلى الرغم من هذا الفضل الذي منى به برديقاس، أو لعل هذا الفشل حدا به إلى أن يثبت للولاة أنه صحاب الأمر والنهي في الإمبراطورية، فأعدم ملياجروس وطلب إلى أتنيجونوس أن يقدم تفسيراً شافياً عن عدم إطاعة أوامره عندما طلب إليه المساهمة في فتح قابادوقيا. لكن أتنيجونوس بدلاً من ذلك فر هاربًا إلى أنتيباتروس وقراتروس ينشد مساعدتهما، وأتهم برديفاس بقتل قيناني وبالتطلع إلى العرش وبعزمه على طرد أنتيباتروس من مقدونيا. ولما كان أنتيباتروس قد نصب نفسه نصيرًا للملكين، وكان قراتروس يشعر بأن برديقاس قد سلبه منصبه، فإنهما أخذا يستعدان لمهاجمة برديقاس في آسيا وطلب إلى بطلميوس الانضمام اليهما. وتوكيدًا للتحالف بين أنتيباتروس وقراتروس وبطلميوس زوج أنتيباتروس لحليفه الأول ابنته فيلا (Phila) وللثاني ابنته يوروديقي، وفي مقابل وقوف لوسيماخوس على الحياد أعطاه يدا ابنته نيقايا.
وقد كان بطليموس يتتبع من منف سير هذه الحوادث التي لم تكن لتحزنه ولا لتدهشه، فإنه يوم اختار مصر ولاية له كان يتوقع أن الانقسامات سوف تدب بين أفراد الأسرة المالكة، وأن أطماع الولاة سوف تؤدي إلى حوب شعراء، وأن وحدة الإمبراطورية أن تعني في الغالب إلا أولئك الذين يأمرون في الإفادة من ورائها. وقد أبدى بطلميوس شعوراً صادقًا بالمستقبل، عندما أفلح في الفوز بأ:ثر الولايات بعدًا عن مقر الإمبراطورية وعن ميادين هذه الحروب. وكان بطلميوس مرتاحًا كل الارتياح لتفكيك عري الإ/براطورية، بل أنه أسهم في ذلك مساهمة فعالة. فقد قام بدور رئيسي في مؤتمر بابل الذي تقررت فيه تلك السياسة التي كانت لابد من أن نقضي إلى فصم عري الإمبراطورية كنتيجة طبيعية لتقسيم الملك بين جينين روكسانا وفيليب أرهيدايوس وتقسيم السلطة المركزية بين برديقاس وقراتروس. ويعد ذلك المؤتمر ولي وجهة شطر مصر وهو موطد العزم على أن يستقل تدريجًا بولايته في خلال انحلال الإمبراطورية وهو ما لم يكن منه مفر. وقد كانت هذه الأمنية هي الخطوة الأولى التي لا تقبل تغييراً ولا تبديلاً في سياسته، ولذلك فإنه لم يتوان في محالفة أنتيباتروس وقراتروس وأنتيجوانوس للقضاء على برديقاس، وقد أصبحت تتمثل فيه سلطة الإمبراطورية ووحدتها.
نقل رفات الإسكندر إلى مصر:
وقد انتهز بطلميوس فرصة انهماك برديقاس في مشاغلة بآسيا ليخطو إحدى الخطوات التي رأى فيها دعامة قوية لتوطيد مركزه وهي الفوز برفات الإسكندر. ولا يبعد أن الإسكندر كان يريد أن يدفن في سيوة على مقربة من أبيه آمون، لكنه يبين أن مؤتمر بابل قرر دفنه في إيجي (Aegae) حيث كانت توجد مقبرة الملوك المقدونيين، لأن دفن الإسكندر في مقدونيا كان يحقق رغبات الجيش المتدوني يوتمشى مع أطماع برديقاس، وكان يرنو ببصره إلى الفوز بالعرش.
وعلى كل حال فإن الحقيقة الثابتة هي أن مؤتمر بابل عهد إلى ضابط مقدوني يدعى أرهيدايوس بأعداد عربة فاخرة وجنازة لم يسبق لها مثيل لتشييع جثمان الفاتح المقدوني العظيم. وقد أدرك بطلميوس المجد الذي يعود على ولايته من دفن الإسكندر فيها كما فطن إلى نوايا برديقاس، ولذلك فإنه لم يدع الفرصة تفلت منه، فروج بين الناس أن الإسكندر أوصى بدفنه في واحة سيوة، واتفق سراً مع أرهيدايوس على تحقيق أمنيته. ويمكن تقدير قيمة فوز بطلميوس برقات الإسكندر متى عرفنا أن يومنيس كان يرى في احتفاظه بخوان الفاتح الكبير دعامة قوية لدعم مركزه.
ولاشك في أن وجود جثمان الإسكندر في عاصمة مصر كان يضفي على هذه العاصمة أهمية خاصة تكاد تجمل منها عاصمة للعالم. وتحدثنا المصادر القديمة بأنه في أواخر عام 322 نقل جثمان الإسكندر من بابل إلى دمشق، وهناك استقبله بطلميوس على رأس حامية قوية ونقله إلى مصر، حيث دفنه أولاً في منف ثم نقله بعد بضع سنين إلى الإسكندرية.
ونحن نعتقد أن دفن الإسكندر في منف لم يكن إلا إجراء مؤقتًا، وأن كنا لا نعتقد أن الدافع إلى ذلك كان الانتظار حتى يتم تشييد المقبرة اللائقة بالإسكندر، إذ أنه لو صح ذلك ولم يوجد أي سبب آخر لدفن الإسكندر من أول الأمر في مقبرة مؤقتة في الإسكندرية. ويظهر لنا أن الدافع إلى دفن الإسكندر في منف أولاً ثم نقله إلى الإسكندرية بعد ذلك هو أن منف كانت عندئذ عاصمة بطلميوس، لكنها كانت عاصمة مؤقتة، لأن الإسكندرية كانت دون شك أوفق عاصمة للعهد الجديد، غير أن بطلميوس كان يرى عندئذ أنه من الحكمة أرجاء اتخاذ هذه الخطوة إلى أن يؤمن مركزه في ولايته. وما كاد بطلميوس يطمئن إلى ذلك حتى نقل عاصمته وكذلك جثمان الإسكندر إلى تلك المدينة الإغريقية. وفي سياق الحديث عن إنشاء هذه المدينة ونظمها سنناقش التاريخ الذي نقل فيه بطلميوس عاصمته إليها. ومن الجلي أن أعدام قليومنيس ودفن الإسكندر في مصر يدلان على رغبة بطلميوس في الاستقلال بحكم مصر ويتمشيان مع ما ظهر من خلفه وسلوكه منذ اجتماع مؤتمر بابل.
الحرب بين برديقاس والحلفاء:
ولقد اغتصب بطلميوس برديقاس قبل ذلك مرتين عندما أعدم قلويمنيس وضم قورينايئة، لكنه لم يتحد برديقاس على النحو الذي تحداه به الآن، فلم يكن أما برديقاس إلا أن يعتزل منصبه أو يقبل هذا التحدي. ولما كان لبطلميوس حلفاء يستعدون لمنازلة برديقاس، فقد واجه الأخير حربًا عنيفة في جبهتين، بدأت في ربيع عام 321، وكانت بداية الصراع العنيف الذي دام أربعين عامًا، واشتبكت فيه كافة قوى الإمبراطورية. وقد كان أغلب الفرسان الذين خاضوا غمار الحرب في آسيا في الأسيويين، وأما المشاة المرتزقة فقد كانوا من مختلف الجنسيات الآسيةية والأوروبية بوخاصة من الإغريق، وكانوا ينتقلون يسهو غريبة من جانب إلى آخر، لكن كل قائد كان يحاول الاحتفاظ تحت امرته بقوة أساسية من المشاة المقدونيين. ولما كان هذا الصراع كريهًا للفرق المقدونية، فانهم كثيراً ما كانوا يهجرون الجانب الخاسر إلى الجانب الآخر أملاً في وضع حد للقتال.
وقد كان يشد ازر برديقاس، الذي قضى شتاء عام 322 في الاستعداد للحرب، شقيقة القتاس (Aloetas) ويومنيس وإلى قابادوقيا وأولومبياس أم الإسكندر وكليوبترة أخته. وقد عقد برديقاس محالفة مع الإيتولين أعداء أنتيباتروس، وعزل فيلوتاس وإلى قيليقيا ـ وكان صديق قراتروس ـ كما عزل أرخون وإلى بابل لأنه لم يكن راضيًا عنه.
وقد كانت خطة برديقاس تنطوي على أن يهاجم بنفسه بطلميوس، إذ أنه كان أقوى خصومه وأشد أعداء وحدة الإمبراطورية مراسا. ولذلك أعد العدة المهاجمة مصر، بينما وقف موقف الدفاع من أنتيباتروس ووكل أمر ذلك إلى يومنيس، وأرسل جانبًا من أسطوله إلى قبرص، حيث قدم أنتيجونوس على رأس جانب من أسطول أنتيباتروس لينضم إلى أمراء بعض مدن هذه الجزيرة وكانوا حلفاء بطلميوس. وعندما عبر أنتيباتروس وقراتروس الهلبونت (الدردنيل) كان قد تجمع لدى يومنيس قوة كبيرة، قوامها 20.000 راجل من مختلف الجنسيات و5000 فارس من قابادوقيا. وقد صم أنتيباتروس على أن يقسم قواته فريقين، فيزحف جنوبًا على رأس 10.000 جندي لمساعدة بطلميوس، ويترك مع قراتروس 20.000 راجل و2800 فارس للقضاء على يومنيس. لكن فرسان الأخير انتصروا في أول اشتباك بين الفريقين وخر قراتروس صريعًا، فدخل يومنيس في مفاوضة مع مشاة خصمه وحصل على استسلامهم، لكنهم هربوا في أثناء الليل وانضموا إلى أنتيباتروس. ولم يعد على يونيس من انتصاره إلا شهرة واسعة وصدور قرار بإعدامه، وذلك نتيجة لما حدث في الميدان الآخر.
وفي تلك الأثناء كان برديقاس، وفي صحبته الملكان وبقية أسطوله بقيادة أتالوس (Attalos)، وقد غزا مصر، حيث كان بطلميسو مستعدًا للقائه. وقد أخفق برديقاس في المحاولتين اللتين قام بهما للاستيلاء على بلوزيون، وفي عبور النيل عند قلعة جنوبي ذلك تدعى حائط الجمل، وكذلك في مكان جنوبي بوباسطس، حيث فقد في هذه المحاولة الأخيرة الفاشلة أكثر من ألفي رجل وكل ما تبقى له من سيطرة على رجاله، فقد كان صلفًا متكبرًا يكرهه ضباطه وجنوده. ولذلك فإنهم عندما أحسوا بأنه لم تعد له فرصة للنصر ثاروا عليه وقتلوه في معسكره، وكان على رأس الثوار بايثون وسلوقس (Seleucos). وفي اليوم التالي عرض رجال أنتيبارتوس على بطلميوس منصب الوصاية، لكنه كان أفطن من أن يقبل ذلك المنصب الخطر أو يتطلع إليه، ولذلك نصح باختيار بايثون من الجانب الآخر وأرهيدايوس من جانبه، للاضطلاع بهذا المنصب مؤقتًا إلى أن يجتمعوا بأنتيباتروس. وفي اليوم التالي وصلت أنباء انتصار يومنيس التي لو أنها صولت قبل ذلك بيومين لأقنذت حياة برديقاس. وأما عندئذ فإنه لم تكن لها نتيجة إلا أن الجيش قرر إعدام يونيس والتقاس، وإزاء تطور الحوادث على هذا النحو انسحب أنالوس بالأسطول إلى صور.
مؤتمر تريباراديسوس:
وبعد ذلك قاد الوصيان الجيش والملكين إلى مكان في سوريا على نهر العاصي يدعى تريباراديسوس (Triparadeisos) يظن أنه بالقرب من ربيله (Ribleh) حيث اجتمع القواد لإعادة تقسيم ولايات الإمبراطورية. لكن الأمور لم تسر في رفق وهوادة نتيجة لتدابير يوروديقي، وكانت تهدف إلى الغاء الوصاية ووضع السلطة الفعلية في قبضة زوجها المعتوة، أول بعبارة أصح في قبضتها على أنها لم تفلح في محاولاتها ومرت العاصفة بسلام وتقرر اختيار أنتيباتروس وصيًا عامًا على الإمبراطورية (Epimeletes autocrator) وهكذا انتقل مركز الإمبراطورية من آسيا إلى مقدونيا، حيث ذهب أنتيباتروس وفي صحبته الملكان. وقد تقرر كذلك الاعتراف بمركز بطلميوس في مصر وتعيين ولاة جدد مكان أصدقاء برديقاس، وتناولت هذه التغيرات عددًا كبيراً من ولايات آسيا الصغرى والولايات الشرقية. وقد كان من أهم قرارات هذا المؤتمر التي كانت لها نتائج بعيدة المدى تعيين سلوقس واليًا على بابل، والاحتفاظ لأنتيجونوس بولايته أو بولاياته في آسيا، مع تعيينه إلى جانب ذلك قائدًا عامًا للجيش الملكي في آسيا وتكليفه بإخضاع يومنيس. ولما كان قد تقرر أيضاً نقل كنوز سوسا إلى قلعة قويندا (Cyinda) في قليقيا، فإنها وضعت على هذا النحو تحت إشراف القائد العام، وبذلك توافرت له الوسائل ليبنى لنفسه مركزًا ممتازًا، بل ليبعث من جديد مشروعات برديقاس. ولكي يدعم أنتيباتروس صلته بأنتيجونوس زوج ابنته فيلا، أرملة قراتروس، إلى دمتريوس بن أنتيجونوس.
وعلى كل حال فإن وصاية أنتيباتروس لم تدم إلا عامين امتازا في بلاد الإغريق بهزيمة الأيتولين واستعادة تساليًا، وفي آسيا الصغرى بأفلاح أنتيوجنوس في القضاء على جيش القتاس وفي أسر أنالوس وفي هزيمة يومنيس فهرب إلى نورا (Nora)، وكانت قلعة منبعة في قابادوقيا تدعى "وكر النسر".
وليس من شك في أن اتساع نفوذ بطلميوس لم يرض برديقاس، إذ أن ذلك كان شاهدًا قويًا على أن بلطميسو لا ينوي أن يسلس له القياد، بل يعتزم أن يختط لنفسه سياسة مستقلة. ولم تكن القطيعة محتومة بين برديقاس وبطلميوس فحسب، لأن الأطماع الجامحة الت يكانت تجيش في صدر برديقاس أثارت حفيظة الكثيرين ضده، وتمخضت عنها الحوادث الجسام التي أفضت إلى تفكك عرى الإمبراطورية المقدونية. وفي الواقع لم يكن يشير الاحتاظ بوحدة تلك الإمراطورية المترامية الأطراف إلا بنفوذ ملك قوى، وأما في ذلك الوقت فإنه لم يمثل الملكية إلا شخص مجرح ضعيف العقل وطفل رضيع أنجبته سيدة شرقية. ولذلك كان برديقاس هو صاحب الكلمة العليا في الإمبراطورية، لكنه كان عليه أن يدخل في حسابه أطماع أولومبياس أم الإسكندر وكليوباترة أخته وآديا خطيبة فيليب أرهيدايوس، وكذلك غيرة كبار القواد وميولهم الاستقلالية. وقد كان أكثر منافسي برديقاس خطرًا أنتيباتروس وقراتروس، اللذان لم يعترفا بالمركز الذي اغتصبه لنفسه، وكذلك ليوناتوس الذي كان يطمع في عرض مقدونيا، ولاسيما أن كليوبترة كانت تمنيه بالزواج منها، لكن الحرب اللامية خلصت برديقاس مؤقتًا من هذه التهديدات لأنها شلت حركة أنتيباتروس وقرانروس وأودت بحياة ليوناتوس. وقد استغل برديقاس فرصة حرية العمل التي أتاحتها له الحرب اللامية ليتم فتح آسيا الصغرى، إذ أنه أخضع أرمينياً وبيسيديا وأساوريا وقابادوقيا. حقًا أن برديقاس أحرز انتصرات باهرة، إلا أن عصيان بعض الولاة كان واضحًا للعيان، فإنه عندما أسند هذه المهمة إلى ليوناتوس وأنتيجونوس آثر الأول الذهاب لنجدة أنتيباتروس ورفض الثاني تنفيذ ما صدر إليه من أوامر.
تكوين حلف ضد برديقاس:
وقد قوت انتصارات برديقاس مركزه إلى حد أن جيشه أقامه وصيًا على الملكين، أو بعبارة أصح اعترف الجيش بالمركز الذي ادعاه برديقاس لنفسه منذ مؤتمر بابل. وكان من شأن ذلك إثارة قلق أنتيباتروس. مما حد ببرديقاس إلى تهدئة روعة بالزواج من ابنته نيقايا (Nicaea) في صيف عام 322. ولا جدال في أن هذه المصاهرة أقضت مضاجع أولومبياس بما أضفته على مركز خصمها أنتيباتروس من القوة فصمت على حرمانه ذلك بأ، عرضت على برديقاس الزواج من ابنتها كليوبترة. وبعد شيء من التردد طلق برديقاس نيقايا وأخذ يتودد إلى كليوبترة. وبعد شيء من التردد طلق برديقاس نيقايا وأخذ يتودد إلى كليوبترة للفوز بيدها، لكنه لم يفز إلا باغضاب أنتيباتروس وتغذية الشائعة القائلة بأنه يتطلع إلى اغتصاب العرش. وإذا كان من العسير تبرأة برديقاس من هذه الأطماع، فإنه من العسير كذلك أن تتصور إمكان مجازفته بمخاطرة اغتصاب العرش عندئذ لأنها كانت ستشير عليه حتمًا كل الجيوش المقدونية، فقد كانت لا تزال تظهر أشد الولاء لأسرة الإسكندر ـ وسنرى الآن دليلاً قويًا على ذلك ـ ولأنه لم يكن هناك داع يبرر التعجل في الأقدام على هذه الخطوة، إذ أن وصيًا على العرش يقوم على رأس الجيش كان ملكًا في كل شيء ما عدا اللقب.
وبعد ذلك بقليل برحت قيناني مقدونيا لتزوج ابنتها آديا من فيليب، وقد عجز برديقاس عن منعهما بالقوة من الوصول إلى آسيا إلا أنه دبر مقبل قيناني، لكن الجيش أرغمه على الموافقة على زواج فيليب م ن آديا التي اتخذت منذ ذلك الوقت اسم يوروديقي. ومع أنها كانت في الرابعة عشرة من عمرها، إلا أنها كانت مصممة على ألا تدع أحدًا يغتصب حقوق التاج. وعلى الرغم من هذا الفضل الذي منى به برديقاس، أو لعل هذا الفشل حدا به إلى أن يثبت للولاة أنه صحاب الأمر والنهي في الإمبراطورية، فأعدم ملياجروس وطلب إلى أتنيجونوس أن يقدم تفسيراً شافياً عن عدم إطاعة أوامره عندما طلب إليه المساهمة في فتح قابادوقيا. لكن أتنيجونوس بدلاً من ذلك فر هاربًا إلى أنتيباتروس وقراتروس ينشد مساعدتهما، وأتهم برديفاس بقتل قيناني وبالتطلع إلى العرش وبعزمه على طرد أنتيباتروس من مقدونيا. ولما كان أنتيباتروس قد نصب نفسه نصيرًا للملكين، وكان قراتروس يشعر بأن برديقاس قد سلبه منصبه، فإنهما أخذا يستعدان لمهاجمة برديقاس في آسيا وطلب إلى بطلميوس الانضمام اليهما. وتوكيدًا للتحالف بين أنتيباتروس وقراتروس وبطلميوس زوج أنتيباتروس لحليفه الأول ابنته فيلا (Phila) وللثاني ابنته يوروديقي، وفي مقابل وقوف لوسيماخوس على الحياد أعطاه يدا ابنته نيقايا.
وقد كان بطليموس يتتبع من منف سير هذه الحوادث التي لم تكن لتحزنه ولا لتدهشه، فإنه يوم اختار مصر ولاية له كان يتوقع أن الانقسامات سوف تدب بين أفراد الأسرة المالكة، وأن أطماع الولاة سوف تؤدي إلى حوب شعراء، وأن وحدة الإمبراطورية أن تعني في الغالب إلا أولئك الذين يأمرون في الإفادة من ورائها. وقد أبدى بطلميوس شعوراً صادقًا بالمستقبل، عندما أفلح في الفوز بأ:ثر الولايات بعدًا عن مقر الإمبراطورية وعن ميادين هذه الحروب. وكان بطلميوس مرتاحًا كل الارتياح لتفكيك عري الإ/براطورية، بل أنه أسهم في ذلك مساهمة فعالة. فقد قام بدور رئيسي في مؤتمر بابل الذي تقررت فيه تلك السياسة التي كانت لابد من أن نقضي إلى فصم عري الإمبراطورية كنتيجة طبيعية لتقسيم الملك بين جينين روكسانا وفيليب أرهيدايوس وتقسيم السلطة المركزية بين برديقاس وقراتروس. ويعد ذلك المؤتمر ولي وجهة شطر مصر وهو موطد العزم على أن يستقل تدريجًا بولايته في خلال انحلال الإمبراطورية وهو ما لم يكن منه مفر. وقد كانت هذه الأمنية هي الخطوة الأولى التي لا تقبل تغييراً ولا تبديلاً في سياسته، ولذلك فإنه لم يتوان في محالفة أنتيباتروس وقراتروس وأنتيجوانوس للقضاء على برديقاس، وقد أصبحت تتمثل فيه سلطة الإمبراطورية ووحدتها.
نقل رفات الإسكندر إلى مصر:
وقد انتهز بطلميوس فرصة انهماك برديقاس في مشاغلة بآسيا ليخطو إحدى الخطوات التي رأى فيها دعامة قوية لتوطيد مركزه وهي الفوز برفات الإسكندر. ولا يبعد أن الإسكندر كان يريد أن يدفن في سيوة على مقربة من أبيه آمون، لكنه يبين أن مؤتمر بابل قرر دفنه في إيجي (Aegae) حيث كانت توجد مقبرة الملوك المقدونيين، لأن دفن الإسكندر في مقدونيا كان يحقق رغبات الجيش المتدوني يوتمشى مع أطماع برديقاس، وكان يرنو ببصره إلى الفوز بالعرش.
وعلى كل حال فإن الحقيقة الثابتة هي أن مؤتمر بابل عهد إلى ضابط مقدوني يدعى أرهيدايوس بأعداد عربة فاخرة وجنازة لم يسبق لها مثيل لتشييع جثمان الفاتح المقدوني العظيم. وقد أدرك بطلميوس المجد الذي يعود على ولايته من دفن الإسكندر فيها كما فطن إلى نوايا برديقاس، ولذلك فإنه لم يدع الفرصة تفلت منه، فروج بين الناس أن الإسكندر أوصى بدفنه في واحة سيوة، واتفق سراً مع أرهيدايوس على تحقيق أمنيته. ويمكن تقدير قيمة فوز بطلميوس برقات الإسكندر متى عرفنا أن يومنيس كان يرى في احتفاظه بخوان الفاتح الكبير دعامة قوية لدعم مركزه.
ولاشك في أن وجود جثمان الإسكندر في عاصمة مصر كان يضفي على هذه العاصمة أهمية خاصة تكاد تجمل منها عاصمة للعالم. وتحدثنا المصادر القديمة بأنه في أواخر عام 322 نقل جثمان الإسكندر من بابل إلى دمشق، وهناك استقبله بطلميوس على رأس حامية قوية ونقله إلى مصر، حيث دفنه أولاً في منف ثم نقله بعد بضع سنين إلى الإسكندرية.
ونحن نعتقد أن دفن الإسكندر في منف لم يكن إلا إجراء مؤقتًا، وأن كنا لا نعتقد أن الدافع إلى ذلك كان الانتظار حتى يتم تشييد المقبرة اللائقة بالإسكندر، إذ أنه لو صح ذلك ولم يوجد أي سبب آخر لدفن الإسكندر من أول الأمر في مقبرة مؤقتة في الإسكندرية. ويظهر لنا أن الدافع إلى دفن الإسكندر في منف أولاً ثم نقله إلى الإسكندرية بعد ذلك هو أن منف كانت عندئذ عاصمة بطلميوس، لكنها كانت عاصمة مؤقتة، لأن الإسكندرية كانت دون شك أوفق عاصمة للعهد الجديد، غير أن بطلميوس كان يرى عندئذ أنه من الحكمة أرجاء اتخاذ هذه الخطوة إلى أن يؤمن مركزه في ولايته. وما كاد بطلميوس يطمئن إلى ذلك حتى نقل عاصمته وكذلك جثمان الإسكندر إلى تلك المدينة الإغريقية. وفي سياق الحديث عن إنشاء هذه المدينة ونظمها سنناقش التاريخ الذي نقل فيه بطلميوس عاصمته إليها. ومن الجلي أن أعدام قليومنيس ودفن الإسكندر في مصر يدلان على رغبة بطلميوس في الاستقلال بحكم مصر ويتمشيان مع ما ظهر من خلفه وسلوكه منذ اجتماع مؤتمر بابل.
الحرب بين برديقاس والحلفاء:
ولقد اغتصب بطلميوس برديقاس قبل ذلك مرتين عندما أعدم قلويمنيس وضم قورينايئة، لكنه لم يتحد برديقاس على النحو الذي تحداه به الآن، فلم يكن أما برديقاس إلا أن يعتزل منصبه أو يقبل هذا التحدي. ولما كان لبطلميوس حلفاء يستعدون لمنازلة برديقاس، فقد واجه الأخير حربًا عنيفة في جبهتين، بدأت في ربيع عام 321، وكانت بداية الصراع العنيف الذي دام أربعين عامًا، واشتبكت فيه كافة قوى الإمبراطورية. وقد كان أغلب الفرسان الذين خاضوا غمار الحرب في آسيا في الأسيويين، وأما المشاة المرتزقة فقد كانوا من مختلف الجنسيات الآسيةية والأوروبية بوخاصة من الإغريق، وكانوا ينتقلون يسهو غريبة من جانب إلى آخر، لكن كل قائد كان يحاول الاحتفاظ تحت امرته بقوة أساسية من المشاة المقدونيين. ولما كان هذا الصراع كريهًا للفرق المقدونية، فانهم كثيراً ما كانوا يهجرون الجانب الخاسر إلى الجانب الآخر أملاً في وضع حد للقتال.
وقد كان يشد ازر برديقاس، الذي قضى شتاء عام 322 في الاستعداد للحرب، شقيقة القتاس (Aloetas) ويومنيس وإلى قابادوقيا وأولومبياس أم الإسكندر وكليوبترة أخته. وقد عقد برديقاس محالفة مع الإيتولين أعداء أنتيباتروس، وعزل فيلوتاس وإلى قيليقيا ـ وكان صديق قراتروس ـ كما عزل أرخون وإلى بابل لأنه لم يكن راضيًا عنه.
وقد كانت خطة برديقاس تنطوي على أن يهاجم بنفسه بطلميوس، إذ أنه كان أقوى خصومه وأشد أعداء وحدة الإمبراطورية مراسا. ولذلك أعد العدة المهاجمة مصر، بينما وقف موقف الدفاع من أنتيباتروس ووكل أمر ذلك إلى يومنيس، وأرسل جانبًا من أسطوله إلى قبرص، حيث قدم أنتيجونوس على رأس جانب من أسطول أنتيباتروس لينضم إلى أمراء بعض مدن هذه الجزيرة وكانوا حلفاء بطلميوس. وعندما عبر أنتيباتروس وقراتروس الهلبونت (الدردنيل) كان قد تجمع لدى يومنيس قوة كبيرة، قوامها 20.000 راجل من مختلف الجنسيات و5000 فارس من قابادوقيا. وقد صم أنتيباتروس على أن يقسم قواته فريقين، فيزحف جنوبًا على رأس 10.000 جندي لمساعدة بطلميوس، ويترك مع قراتروس 20.000 راجل و2800 فارس للقضاء على يومنيس. لكن فرسان الأخير انتصروا في أول اشتباك بين الفريقين وخر قراتروس صريعًا، فدخل يومنيس في مفاوضة مع مشاة خصمه وحصل على استسلامهم، لكنهم هربوا في أثناء الليل وانضموا إلى أنتيباتروس. ولم يعد على يونيس من انتصاره إلا شهرة واسعة وصدور قرار بإعدامه، وذلك نتيجة لما حدث في الميدان الآخر.
وفي تلك الأثناء كان برديقاس، وفي صحبته الملكان وبقية أسطوله بقيادة أتالوس (Attalos)، وقد غزا مصر، حيث كان بطلميسو مستعدًا للقائه. وقد أخفق برديقاس في المحاولتين اللتين قام بهما للاستيلاء على بلوزيون، وفي عبور النيل عند قلعة جنوبي ذلك تدعى حائط الجمل، وكذلك في مكان جنوبي بوباسطس، حيث فقد في هذه المحاولة الأخيرة الفاشلة أكثر من ألفي رجل وكل ما تبقى له من سيطرة على رجاله، فقد كان صلفًا متكبرًا يكرهه ضباطه وجنوده. ولذلك فإنهم عندما أحسوا بأنه لم تعد له فرصة للنصر ثاروا عليه وقتلوه في معسكره، وكان على رأس الثوار بايثون وسلوقس (Seleucos). وفي اليوم التالي عرض رجال أنتيبارتوس على بطلميوس منصب الوصاية، لكنه كان أفطن من أن يقبل ذلك المنصب الخطر أو يتطلع إليه، ولذلك نصح باختيار بايثون من الجانب الآخر وأرهيدايوس من جانبه، للاضطلاع بهذا المنصب مؤقتًا إلى أن يجتمعوا بأنتيباتروس. وفي اليوم التالي وصلت أنباء انتصار يومنيس التي لو أنها صولت قبل ذلك بيومين لأقنذت حياة برديقاس. وأما عندئذ فإنه لم تكن لها نتيجة إلا أن الجيش قرر إعدام يونيس والتقاس، وإزاء تطور الحوادث على هذا النحو انسحب أنالوس بالأسطول إلى صور.
مؤتمر تريباراديسوس:
وبعد ذلك قاد الوصيان الجيش والملكين إلى مكان في سوريا على نهر العاصي يدعى تريباراديسوس (Triparadeisos) يظن أنه بالقرب من ربيله (Ribleh) حيث اجتمع القواد لإعادة تقسيم ولايات الإمبراطورية. لكن الأمور لم تسر في رفق وهوادة نتيجة لتدابير يوروديقي، وكانت تهدف إلى الغاء الوصاية ووضع السلطة الفعلية في قبضة زوجها المعتوة، أول بعبارة أصح في قبضتها على أنها لم تفلح في محاولاتها ومرت العاصفة بسلام وتقرر اختيار أنتيباتروس وصيًا عامًا على الإمبراطورية (Epimeletes autocrator) وهكذا انتقل مركز الإمبراطورية من آسيا إلى مقدونيا، حيث ذهب أنتيباتروس وفي صحبته الملكان. وقد تقرر كذلك الاعتراف بمركز بطلميوس في مصر وتعيين ولاة جدد مكان أصدقاء برديقاس، وتناولت هذه التغيرات عددًا كبيراً من ولايات آسيا الصغرى والولايات الشرقية. وقد كان من أهم قرارات هذا المؤتمر التي كانت لها نتائج بعيدة المدى تعيين سلوقس واليًا على بابل، والاحتفاظ لأنتيجونوس بولايته أو بولاياته في آسيا، مع تعيينه إلى جانب ذلك قائدًا عامًا للجيش الملكي في آسيا وتكليفه بإخضاع يومنيس. ولما كان قد تقرر أيضاً نقل كنوز سوسا إلى قلعة قويندا (Cyinda) في قليقيا، فإنها وضعت على هذا النحو تحت إشراف القائد العام، وبذلك توافرت له الوسائل ليبنى لنفسه مركزًا ممتازًا، بل ليبعث من جديد مشروعات برديقاس. ولكي يدعم أنتيباتروس صلته بأنتيجونوس زوج ابنته فيلا، أرملة قراتروس، إلى دمتريوس بن أنتيجونوس.
وعلى كل حال فإن وصاية أنتيباتروس لم تدم إلا عامين امتازا في بلاد الإغريق بهزيمة الأيتولين واستعادة تساليًا، وفي آسيا الصغرى بأفلاح أنتيوجنوس في القضاء على جيش القتاس وفي أسر أنالوس وفي هزيمة يومنيس فهرب إلى نورا (Nora)، وكانت قلعة منبعة في قابادوقيا تدعى "وكر النسر".
يسري حماده- عضو متميز
-
عدد الرسائل : 287
العمر : 55
العمل/الترفيه : الرياضيات
المزاج : الحمد لله
نقاط : -1
تاريخ التسجيل : 06/10/2008
رد: بطليموس الاول
بطلميوس يعمل على دعم استقلاله وتوسيع نطاق ممتلكاته:
وفي هذه الأثناء، أخذ بطلميوس يعمل على دعم استقلاله الفعلي وتوسيع نطاق ممتلكات ولايته، التي أصبح يعتبرها منذ انتصاره على برديقاس غنيمة حرب اكتسبها بحد السيف (Dorikteton)، أي أنه أخذ يعتبرها ملكًا خاصًا له. ولقد حاول بطلميوس منذ أن أصبح وإلى مصر عقد أواصر الصداقة مع الجزر الكبرى في شرق البحر الأبيض المتوسط ولاسيما مع قبرص التي رأينا أن أمراء بعض مدنها كانوا يحالفونه في أثناء الحرب ضد برديقاس، والآن جدد محالفته مع حكام سلاميس (Salamis) وسولى وبقاس وأمانوس.
وليس من العسير أن نفسر نشاط بطلميوس في البحر الأ[يض المتوسط لأن مصر أخذت منه عهد بعيد تتجه باطراد نحو بحر أيجة الذي أضحى تدريجًا مركز العالم، إلا أنه قبل عهد الإسكندر الأ:بر كانت سياسة فراعنة مصر موجهة قبل كل شيء نحو آسيا وأعالي النيل. وقد كان طبيعياً أن يكافح البطالمة الأوائل أيضاً منافسيهم في آسيا وأن يوطدوا حدودهم الجنوبية، لكنه وجهوا جل اهتمامهم إلى الفوز بسيادة بحر أيجة حيث ازدهرت الحضارة الهلينية وبلغت ذروة مجدها، وكانت المدن الإغريقية مصدر جل المبتكرات الخصبية في حلبة الأفكار والفنون والصناعات في حين أن الحضارات الشرقية القديمة بدت بالمقارنة وكأنها مخلفات عنيقة من تراث الماضي. فلا عجب أنه في هذا العصر أصبحت حضارة الناس في كل الأقاليم المطلة على البحر المتوسط تقاس بمقدار حظهم من الحضارة الإغريقية. وفي القرن الثالث قبل الميلاد كانت بلاد الإغريق آهلة بالسكان وتفيض حيوية دافقة ونشاطًا جارفًا، وتقطع أوصال هذه البلاد المشاحنات الحزبية العنيفة. ولكي يصلح القواد المقدونيون، الذين اقتصموا فيما يرثهم حكم الشرق، من شأن دولهم الجديدة كانوا في حاجة ملحة إلى نشاط الإغريق. وكان البطالمة شأنهم شأن غيرهم من ملوك العصر الهلينيسي في أشد الحاجة إلى معونة الإغريق. وقد وصلت الإسكندرية كل أنحاء مصر بالبحر الأبيض المتوسط، ذلك أنه عن طريق هذا الميناء الجديد، الذي لم يكن عندئذ لاتساعه نظير، كان وادي النيل يستقبل من عالم بحر أيجة الأفكار والرجال ورءوس الأموال، ويبادله منتجات أرضه ومصانعه وكذلك المنتجات التي كانت تصل إليه من أواسط إفريقيا والشرق الأقصى. وجملة القول أن بطلميوس، منذ أ، عين والياً على مصر، أخذ يعمل حثيثًا للفوز بسيادة بحر أيجة.
الاستيلاء على جوف سوريا:
وفي عام 319 ـ 318 استولى بطلميوس على فينيقيا و"جوف سوريا" (Coele Syria)، وكان "جوف سوريا" إقليمًا يشمل فلسطين وجنوب سوريا ويحده شمالاً جبل هرمون (جبل الشيخ) وشرقاً نهر الأردن وغربًا البحر الأبيض المتوسط. غير أنه لما كانت سوريا البطمية تشمل "جوف سوريا" وفينيقيا، فإننا سنقتقي أثر أغلب المؤرخين في التوسع في استعمال اصطلاح "جوف سوريا" بحيث يشمل كل سوريا البطلمية. وقد حاول بطليموس أول الأمر أن يشتري جوف سوريا من واليه لاومدون (Laomedon)، ولما لم يوفق في ذلك استولى على هذا الإقليم عنوة منتهزًا فرصة ضعف السلطة المركزية في الإمبراطورية عقب وفاة أنتيباتروس.
وفي خلال هذه الحملة استولى بطلميوس بنفسه بغتة على بيت المقدس، ويقال أن هذا حدث يوم سبت لأن الديانة اليهودية تحظر على أتباعها حمل السلاح في هذا اليوم. وكان تحقيق وحدة مصر وسرويا تقليدًا مصريًا قديمًا، فإنه منذ عصر الأسرة الثامنة عشرة كان كل الفراعنة الأقوياء لا يتوانون عن تحقيق هذ الوحدة لدرأ خطر دول آسيا المعادية لهم، هذا إلى أنهم كانوا يجدون هناك ما يفتقر إليه وادي النيل من المعادن والأخشاب اللازمة لبناء السفن. ولا شك في أن هذه المواد كانت ضرورية لسيادة البطالمة البحرية التي أخذت في الظهور.
وصاية بولويرخون:
وعندما أشرف أنتيباتروس على الموت، أوصى الجيش باختيار بولوبرخون (Polyperchon) وصيًا على الملكين وقائدًا أعلى للجيش وتعيين قاساندروس، ابن أنتيباتروس، مساعدًا له. وقد كان الوصي الجديد محاربًا قديمًا في جيش الإسكندر، لكنه برغم أصله العريق لم يشغل قبل ذلك أي منصب من المناصب الرفيعة، إلا أنه في عهد وصاية أنتيباتروس هزم الأيتولين وأعاد تساليًا إلى حظيرة الإمبراطورية. وقد كان محبوبًا من الجنود لما اتصف به من البساطة، وكذلك المسرح أحيانًا، في حين أن قاساندروس (Cassandros) كان متعاليًا متغطرسًا، ولذلك لم يعتقد أبوه في صلاحيته للوصاية. ولاشك في أن أنتيباتروس، باختياره للوصاية رجلاً كان يدرك تمامًا أنه أقل مقدرة من سائر الولاة العظام الآخرين، لم يرم إلا إلى اختيار شخص أمين له أخلاق قويمة يمكن الاعتماد على وفائه للمملكين وتأييدهما تأييدًا صادقًا. وقد كان نجاح بولوبرخون في مهمته يتوقف قبل كل شيء على وفاء الجيش له. ولعل أنتيباتروس كان يعتقد أن الجيش سيخلص للوصي الجديد، لكن الأحداث لم تؤيد ذلك الاعتقاد، إذ أنه في وقت طغت فيه الأطماع الشخصية على كل شيء لم يعد يحرك الجيش ولاؤه للبيت المالك، فلا عجب أن أصبح الجيش، الذي كان لا يزال أقوى عامل في سياسة ذلك الوقت، مستعدًا لخدمة أي قائد يثق فيه. وقد أضعف مركز بولوبرخون أن الولاة لم يعترفوا به فقد كانوا يرثون إلى تحقيق أطماعهم الخاصة، وأن قاساندروس الذي كان يطمع في ذلك المنصب ناصبه العداء، ولذلك واجهت الإمبراطورية أزمة جديدة خطيرة.
وقد وجد الولاة الطموحون فرصتهم في المنافسة بين بولوبرخون وقاسا ندروس، إذ أن الأخير عندما أخذ يتطلع إلى حلفاء له أفلح في عقد محالفة بينه وبين أعظم الولاة فقد كان بعضهم، مثل أنتيجونوس، غير مستعد للاعتراف بأيه سلطة مركزية لا يتولاها هو نفسه، وكان البعض الآخر، مثل بطلميوس، ندفعه شدة حرصه على الاستقلال بولايته إلى مناهضة السلطة المركزية في الإمبراطورية، وكانت تتمثل عندئذ في بولوبرخون بوصفه وصيًا على الملكين. وتبعًا لذلك لم يلق قاساندروس صعوبة في التحالف مع بطليموس وأنتيجونوس، وكانا قد انتهزا فرصة وفاة أنتيباتروس فضم أولهما جوف سوريا، واستولى الآخر على فروجيا الواقعة على ضفاف الدردنيل، وكذلك على لوديا ثم أخذ يبنى لنفسه أسطولاً. وبعد ذلك أفلح أنتيجونوس في ضم لوسيماخوس والي تراقيا إلى المحالفة، وكان يناصرها كذلك فيليب ويورديقي.
أما بولوبرخون فإنه أراد أن يستغل كراهية أولومبياس القاسندروس وماكنتها بين الجنود بوصفها أم الإسكندر ـ وكانت قد لجأت إلى أبيروس منذ أن عين أنتيباتروس وصيًا ـ ولذلك استدعاها إلى مقدونيا بحجة رعاية طفل روكسانا. وصمم كذلك على كسب كل بلاد الإغريق إلى جانبه، فأصدر باسم الملكين قراراً بإلغاء نظم الحكم الأوليجاركية التي كان أنتيباتروس قد أقامها، وبأ، تسترد المدن الإغريقية الدساتير التي كانت قائمة فيها أيام فيليب الثاني والإسكندر الأكبر، وبأن يعود المنفيون إلى بلادهم. وبفضل هذا القرار نال بولوبرخون تأييد الأ؛زاب الديقمراطية وأنزل ضربة قاصمة بالأوليجاركيين ونصيرهم قاساندروس، وفي الوقت نفسه استمال بولوبرخون إلى جانبه يومنيس، وعينه قائدًا عامًا في آسيا وأمده بالمال والجنود.
مصرع فيليب أرهيدايوس ويورديقي وأولومبياس:
وهكذا اشتعلت نار الحرب من جديد في بلاد الإغريق وفي آسيا. وأما في بلاد الإغريق فإن الصراع كان بين قاساندروس وبولوبرخون، ولم ينته بانتصار الأول في عام 316 إلا بعد وقوع ثورات عنيفة وحوادث دامية كان أبرزها وقوع أثينا في قبضة فاساندروس الذي أعاد إليها نظام الحكم القديم وأقام عليها دمتريوس الفليرى حاكمًا بأمره. والقضاء على فيليب أرهيدايوس ويوروديقي وأولومبياس. ذلك أن بولوبرخون ـ إزاء ضياع أثينا من قبضته وهزيمة أسطوله ـ فر مع ما تبقى له من قوات إلى أبيروس وفي صحبته الإسكندر الرابع وأمه. وهناك كانت أولومبياس ترقب الموقف لتتحين الفرصة المناسبة لغزو مقدونيا. وقد انتهزت انهماك قاساندروس في البلوبونيز وقامت بغزو مقدونيا بقوة جمعتها في أبيروس لتشد أزر قوات بولوبرخون. ولم تكد تدخل مقدونيا حتى أودت بحياة فيليب ويوروديقي وأعملت السيف في رقاب أنصار قاساندروس (حوالي شهر أكتوبر عام 317).
لكنها لم تلبث أن تجرعت الكأس المريرة نفسها عندما وقعت في ربيع عام 316 في قمضة قاساندروس، الذي خف إلى مقدونيا وسيطر عليها، وتزوج ثسالونيقي (Thessalonice) ابنة فيليب الثاني، وأسس على موقع مدينة بوتيدايا (Potidaea) عاصمة جديدة دعاها قاسندريا (Cassandreia) مما يوحى بأنه اعتبر الإسكندر الرابع مخلوعًا رسميًا. وقد كان قاساندروس يريد قتل الصبي حتى يخلو له الطريق لارتقاء العرش، لكنه لما كان قد أودى منذ قليل بحياة أولومبياس فإنه أثر الاكتفاء عندئذ بتحديد إقامته هو وأمه روكسانا، ووضعهما تحت حراسة دشدية. وبعد ذلك أقام جنازة ملكية لفيليب ويوروديقي في إيجي، ومعنى ذلك أنه ادعى أنه خليفة ملوك مقدونيا القوميين. ولما كان قاساندروس قد أحرز مقدونيا وسيطر على كل بلاد الإغريق تقريبًا، فإنه لم يبق في حوزة بولوبرخون إلا قورنثة.
مصرع بومنيس، حذر بطلميوس:
وأما في آسيا فإن الصراع (318-316) كان عنيفًا بين أنتيجو نوس ويمنيس، الذي أتى بالمعجزات في هذا الصراع لكنه هلك فيه، وكان تأثير خيانة أعوانه في هلاكه أشد فتكًا من ضربات خصمه العنيد، الذي أصبح نتيجة لانتصاره سيد كل ولايات الإمبراطورية في آسيا. وقد قام بطلميوس بدور غامض في هذا الصراع، فإنه في بداية الأمر ركب البحر قرب شاطئ قيليقيا، لكنه لم يفلح في منع يومنيس من تكوين جيش هناك. بل بادر إلى إخلاء سوريا عندما توغل فيها أسطولاً يعبر به البحر وينضم إلى قوات بولوبرخون في أوروبا، لكنه لم يلبث أن عدل عن هذه الفكرة وصمم على البقاء في آسيا للقضاء على أنتيجونوس. وربما كان سبب ذلك هو النصر الباهر الذي أحرزه أنتيجونوس في خريف عام 318 عند مدخل البسفور على أسطول بولوبرخون، وكان قد أرسله لمنع اتصال لوسيماخوس بانتيجونوس . وعقب هذا النصر خف أنتيجونوس إلى فنيقيا فانسحب منها يومنيس صوب داخل آسيا، حيث تابع النضال إلى أن لقى حتفه في ربيع. ونتيجة لانتصار أنتيجونوس على أسطول بولوبرخون ثم على قوات يومنيس آلت إليه سيادة بحر أيجة وكل ولايات آسيا. وعندما اسنحب بومنيس من فينقيا عاد بطلميوس إلى سوريا، لكننا لا نسمع بعد ذلك شيئًا آخر عن بطلميوس في خلال هذه الحرب. ونحن لا نعرف بالضبط كل الظروف التي أحاطت بطلميوس، لأن معلوماتنا عن هذه الفترة وبخاصة عن تاريخ مصر الداخلي قليلة جدًا، ومع ذلك لا نعتقد أن تعليل موقفه أمر عسير. ذلك أننا نشك في أن تبطلميوس انصم إلى قاساندروس بقصد توليته مكان بولوبرخون، كما نشك في أن ب طلميوس كان ينوي من بادئ الأمر أن يمد يد المساعدة إلى حلفائه، إذ يخيل إلينا أن بطلميوس انضم إلى تلك المحالفة وأوهم حلفاءه بمساعدتهم لغرض واحد يتفق مع السياسة التي رسمها لنفسه منذ أول الأمر. وهذا الغرض هو تشجيعهم على خوض غمار حرب يفني فيها المتحاربون بعضهم بعضاً، بينما يحتفظ هو بقواه، حتى إذا ما كتب النصر لأحد الفريقين، وحاول استغلال نفوذه على نحو ما فعل برديقاس من قبل، كان في استطاعة بطلميوس أن يذود عن حياض استقلاله، وأن يقوم بتنفيذ أغراضه.
وفي هذه الأثناء، أخذ بطلميوس يعمل على دعم استقلاله الفعلي وتوسيع نطاق ممتلكات ولايته، التي أصبح يعتبرها منذ انتصاره على برديقاس غنيمة حرب اكتسبها بحد السيف (Dorikteton)، أي أنه أخذ يعتبرها ملكًا خاصًا له. ولقد حاول بطلميوس منذ أن أصبح وإلى مصر عقد أواصر الصداقة مع الجزر الكبرى في شرق البحر الأبيض المتوسط ولاسيما مع قبرص التي رأينا أن أمراء بعض مدنها كانوا يحالفونه في أثناء الحرب ضد برديقاس، والآن جدد محالفته مع حكام سلاميس (Salamis) وسولى وبقاس وأمانوس.
وليس من العسير أن نفسر نشاط بطلميوس في البحر الأ[يض المتوسط لأن مصر أخذت منه عهد بعيد تتجه باطراد نحو بحر أيجة الذي أضحى تدريجًا مركز العالم، إلا أنه قبل عهد الإسكندر الأ:بر كانت سياسة فراعنة مصر موجهة قبل كل شيء نحو آسيا وأعالي النيل. وقد كان طبيعياً أن يكافح البطالمة الأوائل أيضاً منافسيهم في آسيا وأن يوطدوا حدودهم الجنوبية، لكنه وجهوا جل اهتمامهم إلى الفوز بسيادة بحر أيجة حيث ازدهرت الحضارة الهلينية وبلغت ذروة مجدها، وكانت المدن الإغريقية مصدر جل المبتكرات الخصبية في حلبة الأفكار والفنون والصناعات في حين أن الحضارات الشرقية القديمة بدت بالمقارنة وكأنها مخلفات عنيقة من تراث الماضي. فلا عجب أنه في هذا العصر أصبحت حضارة الناس في كل الأقاليم المطلة على البحر المتوسط تقاس بمقدار حظهم من الحضارة الإغريقية. وفي القرن الثالث قبل الميلاد كانت بلاد الإغريق آهلة بالسكان وتفيض حيوية دافقة ونشاطًا جارفًا، وتقطع أوصال هذه البلاد المشاحنات الحزبية العنيفة. ولكي يصلح القواد المقدونيون، الذين اقتصموا فيما يرثهم حكم الشرق، من شأن دولهم الجديدة كانوا في حاجة ملحة إلى نشاط الإغريق. وكان البطالمة شأنهم شأن غيرهم من ملوك العصر الهلينيسي في أشد الحاجة إلى معونة الإغريق. وقد وصلت الإسكندرية كل أنحاء مصر بالبحر الأبيض المتوسط، ذلك أنه عن طريق هذا الميناء الجديد، الذي لم يكن عندئذ لاتساعه نظير، كان وادي النيل يستقبل من عالم بحر أيجة الأفكار والرجال ورءوس الأموال، ويبادله منتجات أرضه ومصانعه وكذلك المنتجات التي كانت تصل إليه من أواسط إفريقيا والشرق الأقصى. وجملة القول أن بطلميوس، منذ أ، عين والياً على مصر، أخذ يعمل حثيثًا للفوز بسيادة بحر أيجة.
الاستيلاء على جوف سوريا:
وفي عام 319 ـ 318 استولى بطلميوس على فينيقيا و"جوف سوريا" (Coele Syria)، وكان "جوف سوريا" إقليمًا يشمل فلسطين وجنوب سوريا ويحده شمالاً جبل هرمون (جبل الشيخ) وشرقاً نهر الأردن وغربًا البحر الأبيض المتوسط. غير أنه لما كانت سوريا البطمية تشمل "جوف سوريا" وفينيقيا، فإننا سنقتقي أثر أغلب المؤرخين في التوسع في استعمال اصطلاح "جوف سوريا" بحيث يشمل كل سوريا البطلمية. وقد حاول بطليموس أول الأمر أن يشتري جوف سوريا من واليه لاومدون (Laomedon)، ولما لم يوفق في ذلك استولى على هذا الإقليم عنوة منتهزًا فرصة ضعف السلطة المركزية في الإمبراطورية عقب وفاة أنتيباتروس.
وفي خلال هذه الحملة استولى بطلميوس بنفسه بغتة على بيت المقدس، ويقال أن هذا حدث يوم سبت لأن الديانة اليهودية تحظر على أتباعها حمل السلاح في هذا اليوم. وكان تحقيق وحدة مصر وسرويا تقليدًا مصريًا قديمًا، فإنه منذ عصر الأسرة الثامنة عشرة كان كل الفراعنة الأقوياء لا يتوانون عن تحقيق هذ الوحدة لدرأ خطر دول آسيا المعادية لهم، هذا إلى أنهم كانوا يجدون هناك ما يفتقر إليه وادي النيل من المعادن والأخشاب اللازمة لبناء السفن. ولا شك في أن هذه المواد كانت ضرورية لسيادة البطالمة البحرية التي أخذت في الظهور.
وصاية بولويرخون:
وعندما أشرف أنتيباتروس على الموت، أوصى الجيش باختيار بولوبرخون (Polyperchon) وصيًا على الملكين وقائدًا أعلى للجيش وتعيين قاساندروس، ابن أنتيباتروس، مساعدًا له. وقد كان الوصي الجديد محاربًا قديمًا في جيش الإسكندر، لكنه برغم أصله العريق لم يشغل قبل ذلك أي منصب من المناصب الرفيعة، إلا أنه في عهد وصاية أنتيباتروس هزم الأيتولين وأعاد تساليًا إلى حظيرة الإمبراطورية. وقد كان محبوبًا من الجنود لما اتصف به من البساطة، وكذلك المسرح أحيانًا، في حين أن قاساندروس (Cassandros) كان متعاليًا متغطرسًا، ولذلك لم يعتقد أبوه في صلاحيته للوصاية. ولاشك في أن أنتيباتروس، باختياره للوصاية رجلاً كان يدرك تمامًا أنه أقل مقدرة من سائر الولاة العظام الآخرين، لم يرم إلا إلى اختيار شخص أمين له أخلاق قويمة يمكن الاعتماد على وفائه للمملكين وتأييدهما تأييدًا صادقًا. وقد كان نجاح بولوبرخون في مهمته يتوقف قبل كل شيء على وفاء الجيش له. ولعل أنتيباتروس كان يعتقد أن الجيش سيخلص للوصي الجديد، لكن الأحداث لم تؤيد ذلك الاعتقاد، إذ أنه في وقت طغت فيه الأطماع الشخصية على كل شيء لم يعد يحرك الجيش ولاؤه للبيت المالك، فلا عجب أن أصبح الجيش، الذي كان لا يزال أقوى عامل في سياسة ذلك الوقت، مستعدًا لخدمة أي قائد يثق فيه. وقد أضعف مركز بولوبرخون أن الولاة لم يعترفوا به فقد كانوا يرثون إلى تحقيق أطماعهم الخاصة، وأن قاساندروس الذي كان يطمع في ذلك المنصب ناصبه العداء، ولذلك واجهت الإمبراطورية أزمة جديدة خطيرة.
وقد وجد الولاة الطموحون فرصتهم في المنافسة بين بولوبرخون وقاسا ندروس، إذ أن الأخير عندما أخذ يتطلع إلى حلفاء له أفلح في عقد محالفة بينه وبين أعظم الولاة فقد كان بعضهم، مثل أنتيجونوس، غير مستعد للاعتراف بأيه سلطة مركزية لا يتولاها هو نفسه، وكان البعض الآخر، مثل بطلميوس، ندفعه شدة حرصه على الاستقلال بولايته إلى مناهضة السلطة المركزية في الإمبراطورية، وكانت تتمثل عندئذ في بولوبرخون بوصفه وصيًا على الملكين. وتبعًا لذلك لم يلق قاساندروس صعوبة في التحالف مع بطليموس وأنتيجونوس، وكانا قد انتهزا فرصة وفاة أنتيباتروس فضم أولهما جوف سوريا، واستولى الآخر على فروجيا الواقعة على ضفاف الدردنيل، وكذلك على لوديا ثم أخذ يبنى لنفسه أسطولاً. وبعد ذلك أفلح أنتيجونوس في ضم لوسيماخوس والي تراقيا إلى المحالفة، وكان يناصرها كذلك فيليب ويورديقي.
أما بولوبرخون فإنه أراد أن يستغل كراهية أولومبياس القاسندروس وماكنتها بين الجنود بوصفها أم الإسكندر ـ وكانت قد لجأت إلى أبيروس منذ أن عين أنتيباتروس وصيًا ـ ولذلك استدعاها إلى مقدونيا بحجة رعاية طفل روكسانا. وصمم كذلك على كسب كل بلاد الإغريق إلى جانبه، فأصدر باسم الملكين قراراً بإلغاء نظم الحكم الأوليجاركية التي كان أنتيباتروس قد أقامها، وبأ، تسترد المدن الإغريقية الدساتير التي كانت قائمة فيها أيام فيليب الثاني والإسكندر الأكبر، وبأن يعود المنفيون إلى بلادهم. وبفضل هذا القرار نال بولوبرخون تأييد الأ؛زاب الديقمراطية وأنزل ضربة قاصمة بالأوليجاركيين ونصيرهم قاساندروس، وفي الوقت نفسه استمال بولوبرخون إلى جانبه يومنيس، وعينه قائدًا عامًا في آسيا وأمده بالمال والجنود.
مصرع فيليب أرهيدايوس ويورديقي وأولومبياس:
وهكذا اشتعلت نار الحرب من جديد في بلاد الإغريق وفي آسيا. وأما في بلاد الإغريق فإن الصراع كان بين قاساندروس وبولوبرخون، ولم ينته بانتصار الأول في عام 316 إلا بعد وقوع ثورات عنيفة وحوادث دامية كان أبرزها وقوع أثينا في قبضة فاساندروس الذي أعاد إليها نظام الحكم القديم وأقام عليها دمتريوس الفليرى حاكمًا بأمره. والقضاء على فيليب أرهيدايوس ويوروديقي وأولومبياس. ذلك أن بولوبرخون ـ إزاء ضياع أثينا من قبضته وهزيمة أسطوله ـ فر مع ما تبقى له من قوات إلى أبيروس وفي صحبته الإسكندر الرابع وأمه. وهناك كانت أولومبياس ترقب الموقف لتتحين الفرصة المناسبة لغزو مقدونيا. وقد انتهزت انهماك قاساندروس في البلوبونيز وقامت بغزو مقدونيا بقوة جمعتها في أبيروس لتشد أزر قوات بولوبرخون. ولم تكد تدخل مقدونيا حتى أودت بحياة فيليب ويوروديقي وأعملت السيف في رقاب أنصار قاساندروس (حوالي شهر أكتوبر عام 317).
لكنها لم تلبث أن تجرعت الكأس المريرة نفسها عندما وقعت في ربيع عام 316 في قمضة قاساندروس، الذي خف إلى مقدونيا وسيطر عليها، وتزوج ثسالونيقي (Thessalonice) ابنة فيليب الثاني، وأسس على موقع مدينة بوتيدايا (Potidaea) عاصمة جديدة دعاها قاسندريا (Cassandreia) مما يوحى بأنه اعتبر الإسكندر الرابع مخلوعًا رسميًا. وقد كان قاساندروس يريد قتل الصبي حتى يخلو له الطريق لارتقاء العرش، لكنه لما كان قد أودى منذ قليل بحياة أولومبياس فإنه أثر الاكتفاء عندئذ بتحديد إقامته هو وأمه روكسانا، ووضعهما تحت حراسة دشدية. وبعد ذلك أقام جنازة ملكية لفيليب ويوروديقي في إيجي، ومعنى ذلك أنه ادعى أنه خليفة ملوك مقدونيا القوميين. ولما كان قاساندروس قد أحرز مقدونيا وسيطر على كل بلاد الإغريق تقريبًا، فإنه لم يبق في حوزة بولوبرخون إلا قورنثة.
مصرع بومنيس، حذر بطلميوس:
وأما في آسيا فإن الصراع (318-316) كان عنيفًا بين أنتيجو نوس ويمنيس، الذي أتى بالمعجزات في هذا الصراع لكنه هلك فيه، وكان تأثير خيانة أعوانه في هلاكه أشد فتكًا من ضربات خصمه العنيد، الذي أصبح نتيجة لانتصاره سيد كل ولايات الإمبراطورية في آسيا. وقد قام بطلميوس بدور غامض في هذا الصراع، فإنه في بداية الأمر ركب البحر قرب شاطئ قيليقيا، لكنه لم يفلح في منع يومنيس من تكوين جيش هناك. بل بادر إلى إخلاء سوريا عندما توغل فيها أسطولاً يعبر به البحر وينضم إلى قوات بولوبرخون في أوروبا، لكنه لم يلبث أن عدل عن هذه الفكرة وصمم على البقاء في آسيا للقضاء على أنتيجونوس. وربما كان سبب ذلك هو النصر الباهر الذي أحرزه أنتيجونوس في خريف عام 318 عند مدخل البسفور على أسطول بولوبرخون، وكان قد أرسله لمنع اتصال لوسيماخوس بانتيجونوس . وعقب هذا النصر خف أنتيجونوس إلى فنيقيا فانسحب منها يومنيس صوب داخل آسيا، حيث تابع النضال إلى أن لقى حتفه في ربيع. ونتيجة لانتصار أنتيجونوس على أسطول بولوبرخون ثم على قوات يومنيس آلت إليه سيادة بحر أيجة وكل ولايات آسيا. وعندما اسنحب بومنيس من فينقيا عاد بطلميوس إلى سوريا، لكننا لا نسمع بعد ذلك شيئًا آخر عن بطلميوس في خلال هذه الحرب. ونحن لا نعرف بالضبط كل الظروف التي أحاطت بطلميوس، لأن معلوماتنا عن هذه الفترة وبخاصة عن تاريخ مصر الداخلي قليلة جدًا، ومع ذلك لا نعتقد أن تعليل موقفه أمر عسير. ذلك أننا نشك في أن تبطلميوس انصم إلى قاساندروس بقصد توليته مكان بولوبرخون، كما نشك في أن ب طلميوس كان ينوي من بادئ الأمر أن يمد يد المساعدة إلى حلفائه، إذ يخيل إلينا أن بطلميوس انضم إلى تلك المحالفة وأوهم حلفاءه بمساعدتهم لغرض واحد يتفق مع السياسة التي رسمها لنفسه منذ أول الأمر. وهذا الغرض هو تشجيعهم على خوض غمار حرب يفني فيها المتحاربون بعضهم بعضاً، بينما يحتفظ هو بقواه، حتى إذا ما كتب النصر لأحد الفريقين، وحاول استغلال نفوذه على نحو ما فعل برديقاس من قبل، كان في استطاعة بطلميوس أن يذود عن حياض استقلاله، وأن يقوم بتنفيذ أغراضه.
يسري حماده- عضو متميز
-
عدد الرسائل : 287
العمر : 55
العمل/الترفيه : الرياضيات
المزاج : الحمد لله
نقاط : -1
تاريخ التسجيل : 06/10/2008
رد: بطليموس الاول
أطماع أنتيجونوس:
ولم تمر تلك العاصفة إلا لتهب بعدها ريح صرصر عاتية، لم تخمد إلا بعد أن عصفت بوحدة الإمبراطورية وقضت عليها قضاء مبرما. ذلك أ،ه بوفاة فيليب أرهيدايوس وأولومبياس وسجن الإسكندر الرابع لم يعد لأسرة الإسكندر الأكبر أي كيان فعلي، وكان ذلك خير حافز لتحقيق أطماع خلفاء الإسكندر. وسرعان ما أحس الجميع بأن أنتيجونوس "الأعور" (Monophthalmos)، وقد ازدهى فخارًا بما أحرزه من انتصارات باهرة، كان يتطلع إلى لم شعث الإمبراطورية في قبضته والتربع فوق عرشها، ولذلك فإن شخصيته سيطرت على تارخي الفترة التي امتدت من عام 316 حتى وفاته في عام 301. وليس معنى ذلك أنه لم يواجهه إلا نكرات، فقد أظهر قاساندروس ولوسيماخوس وبطلميوس وسلوقس من المواهب والنشاط ما لا يقل عما أبدأه أنتيجونوس، إلا أن أطماعهم كانت محدودة إذا قيست بأطماعه، إذ يبدو أنهم لم يهدفوا إلا إلى الفوز بنصيب من الإمبراطورية التي أسهموا في تفكيك أواصرها. وأما أنتيجونوس فإنه كان يرمي إلى حكم الإمبراطورية كلها، وتبعًا لذلك أثارت مشروعاته الولاة الآخرين فتكاتفوا للقضاء عليه هو وأبنه الجسور دمتريوس "محاصر المدن" (Poliorcetes)، وكان في طليعة قواد عصره.
المحالفة الأولى ضد أنتيجونوس:
وفي صيف عام 316 فر إلى مصر سلوقس والي بابل، في رفقة قوة صغيرة تتألف من خمسين فارساً. وحمل سلوقس معه أنباء مزعجة. مجملها أن قائد عام آسيا أخذ يقوم بدور الملك فيها، وذلك أنه أعدم بايثون والي ماريا وأنتيجنيس (Antigenes) قائد فرقة "الدروع القضية"، وعزل بيوقستاس (Peucestas) والي فارس، وأجترأ على أن يطلب من سلوقس بيانًا عن د خل ولايته، فاحتدم الخلاف بينهما. لكن سلوقس ـ وقد اتعظ من مصر بايثون ـ آثر الفرار إلى مصر حث أحسن بطلميوس وفادته، ولم يلبث سلوقس أن أنفذ الرسل ليستحنث قاساندروس ولوسيماخوس لمناصبة أنتيجونوس العداء. وإزاء هذا الخطر الداهم، تحالف بطلميوس وقاساندروس ولوسيماخوس مع سلوقس. وفي أوائل عام 315 أرسل الحلفاء إلى أنتيجونوس يخيرونه بين الحرب والاستجابة إلىجميع مطالبهم، وكانت: الاعتراف لبطلميوس بسوريا جميعًا وللوسيماخوس بفرويجيا على الدردنيل ولقاساندروس بقايا دوقيا ولوقيا ولسلوقس ببابل، وتوزيع أموال الإمبراطورية التي استولى عليها بعد انتصاره على يومنيس. وقد رفض أنتيجونوس مطالب الحلفاء لأنه لو قبلها لحيل بينه وبين داخل آسيا والبحر الأسود على السواء، وقصرت ممتلكاته على جزء منآسيا الصغرى لا يشمل إلا قدرًا ضئيلاً إلى جانب ولايته أو بعبارة أدق ولاياته الأصلية: فروجيا الكبرى وبامفوليا ولوقاونيا ولوقيا. وتدل الطريقة التي أدار بها دفة الحرب على أن مواهبة كانت تكاد تعادل مطامعه. ولما كان يرغب في إحياء الإمبراطورية والتربع على عرشها، فإن الاستيلاء على مقدونيا كان هدفه طوال هذه الحرب، لكنه، وقد سد لوسيماخوس الطريق أمامه ووقف بطلميوس يهدد مؤخرته، عجز عن غزو مقدونيا.
وقد اعتمد أنتيجونوس في هذا الصراع على الأساليب السياسية قدر اعتماده على القوة، ذلك أنه قبل أن يمتشق الحسام أنفذ الرسل لكسب الحلفاء وأثارة المتاعب لخصومه. وقد استمال أنتيجونوس إلى جانبه جزيرة رودس وبعض أمراء قبرص وبولوبرخون وابنه الإسكندر وكال لقاساندروس لطمة سياسية لم يستطيع محو أثرها سريعًا، وذلك بإصدار تصريح عدد فيه جرائمه ضد أسرة الإسكندر وسياسته، فإنه أتهمه أولاً بقتل أولومبياس وسجن روكسانا وابنها واغتصاب الوصاية التي لم تكن من حقه، وثانيًا بخروجه على سياسة الإسكندر لأنه بموجب هذه السياسة كان يجب أن تتمتع المدن الإغريقية بحريتها واستقلالها وألا تخضع لأية حامية أجنبية. وهذا التصريح يذكرنا بالقرار الذي كان يولوبرخون قد استخدمه من قبل ضد قاساندروس عندما اشتعل لهيب الحرب بينهما. وهكذا أفلح أنتيجونوس في أن يكسب إلى جانبه كل بلاد الإغريق تقريبًا والوريا وكذلك أبيروس، وكان فاسندروس قد أخضعها وثارت عليه. وأفلح أنتيجونوس كذلك في بذر بذور الاضطراب في ولاية لوسيماخوس، حيث أثار عليه المدن الإغريقية الواقعة على الشاطئ وكذلك الأهالي الوطنيين الذين يعيشون في الداخل.
بطلميوس يفقد جوف سوريا وسيادته البحرية:
ومنذ البادية صمم أنتيجونوس على أن يتولى بنفسه القضاء على بطلميوس، ولذلك غزا سوريا في ربيع عام 315. ولما كان أقوى من أن يقاوم، فإن بطلميوس حصن صور وانسحب مع كل السفن الحربية الفينيقية إلى مصر، فاحتل خصمه سوريا وفينيقيا وحاصر صور، لكنها لم تقع في قبضته إلا بعد خمسة عشر شهرًا. وفي تلك الأثناء عكف على بناء أسطول وعقد محالفة مع رودس وضم أسطولها إلى أسطوله، فأضحى تحت أمرته في خريف عام 314 أسطول كبير استخدمه في السيطرة على جزر الفوقلاد (Cyclades) وألف منها عصبة جعل مركزها ديلوس بعد أن تخلصت من ريقة أثينا الطويلة الأ/د. وأزاء كل هذه التدابير آلت إلى أنتيجونوس السيادة البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط، فكان ذلك ضربة قاضية على سيادة مصر البحرية. وعندما سقطت صور أخيراً في قبضة أنتيجونوس، ترك ابنه دمتريوس في غزة ليراقب بلطميوس وانسحب إلى عصامته لقضاء شتاء عام 314 فيها مصممًا على أن يقف في عام 313 موقف الدفاع في غزة، ويبدأ هجومه الحقيقي على مقدونيا.
موقعة غزة عام 312:
وقد حاول بطلميوس أن يقضي على أثر تصريح أنتيجونوس بتصريح مسائل أعلن فيه بدوره أن الإغريق يجب أن يكونوا أحراراً لكنه لم يكن لذلك أثر، إذ أنه لم يكن في وسع أحد اعتبار هذا التصريح جديًا لصدوره عن وال كان الجميع يعرفون أنه لا يميل إلى تحرير المدن الخاضعة لسلطانه، ولاسيما أنه عندما صدقت قورينايئة هذا التصريح وثارت على حاكمها أوفلاس، بادر بطلميوس إلى القضاء على هذه الثورة. ومع أ،ه أضاع في ذلك أغلب عام 313 إلا أنه استطاع أن يقضي على أنصار أنتيجونوس في قبرص ويقيم نيقوقريون (Nicocreon) السلامسي حاكمًا عليها. وقد شهد هذا العام أيضاً تضييق الخناق على قاساندروس بوجه خاص، إلى حد أنه دخل مع أنتيجونوس في مفاوضات، إلا أنها باءت بالفشل. ولكي يخفف بطلميوس الضغط على حلفائه ويتخلص من خطر اقدام دمتريوس على غزو مصر، هاجمه في ربيع عام 312 وأحرز عليه عند غزة نصراً مبينًا كانت له نتائج بعيدة الأثر، فقد ترتب على ذلك أن استرد بطلميوس جوف سوريا وخف الضغط على قاساندروس. وكان أهم من ذلك أن سلوقس وجد الطريق مفتوحًا أمامه للعودة إلى ولايته، التي استردها بسهولة في أكتوبر عام 312. ويعتبر هذا التاريخ بداية عهد السلوقيين.
نكبات بطلمية:
ولم يهنأ بطلميوس بنصره طويلاً، ففي عام 311 ثأر دمتريوس لنفسه بأن أسر في شمال سوريا قوة بطلمية قوامها 7000 جندي. هذا إلى أن أنتيجونوس ـ وقد قرر تصفية حسابه مع بطلميوس وسلوقس مما شغله عن غزو أوروبا في ذلك العام ـ لم يلبث أن انضم بقواته إلى قوات ابنه وساترد جوف سوريا الذي سارع بطلميوس إلى إخلائه تفاديًا لمجابهة أنتيجونوس. وتضييقًا للخناق على بطلميوس يبدو أن أنتيجونوس ساعد أوفلاس على الاستقلال بقورينابئة، وأرسل حملتين ضد البتراء من أجل حرمان مصر طريق القوافل بين البتراء وغزة، كما أرسل حملة ثالثة نحو البحر الميت لحرمان مصر قطراته الضروري للسفن والتحنيط، لكن هذه الحملات جميعًا باءت بالفشل. ولما كانت عودة سلوقس إلى بابل تنطوي على أخطار داهمة تتهدد كل مشروعات أنتيجونوس، فإنه عهد إلى ابنه دمتريوس بغزو بابل. ويبدو أن أهم نتيجة لهذه الحملة غير الموفقة (عام 311) كانت اقتناع أنتيجونوس بضرورة عزل سلوقس عن حلفائه، وذلك بمصالحة هؤلاء الحلفاء إلى أن يقضي على سلوقس الذي كان يهدد مؤخرته ويقف حائلاً دون ما كان يستطيع الحصول عليه من الولايات الشرقية من الرجال والخيول والقيلة والأموال.
صلح عام 211:
وفي ذلك العام (311) عقد الصلح بين أنتيجونوس وقاساندروس ولوسيماخوس، ثم مع بطلميوس أيضاً، وساتغل أنتيجونوس هذا الصلح للقيام بدعاية واسعة بين الإغريق، فقد أذاع فيهم أنه لم يقبل طلبات قاسندروس ويعرض عن سحق بطلميوس عندما وقف أمامه وحيدًأ، إلا لحرصه على أن ينعم الإغريق بالهدوء والسكينة بعد أن أنهكتهم الحرب. وقد تضمنت شروط الصلح (أولاً) أن يحتفظ قاساندروس بسيطرته على مقدونيا حتى عام 305 عندما يبلغ الإسكندر الرابع وشده ويتولى الحكم بنفسه. (وثانيًا) أن تحرر المدن الإغريقية ولا تستبقى فيها حاميات.
ومما يجدر بالملحاظة أن الشرط الأول كان حافزًا لقاساندروس على التخلص من الإسكندر الرابع، وأن لاشرط الثالث زاد أنتيجونوس مكانة بين الناس وأعطاه المعاذير لبدء الحرب من جديد متى شاء. وتتلخص نتائج الحرب في أن فاسندروس فقد جانبًا كبيراً من بلاد الإغريق، لكنه احتفظ بابيروس ووطد مركزه في مقدونيا، وأن لوسيماخوس دعم مركزه إلى حد كبير، وأن بطلميوس فقد جوف سوريا وقورينايئة وسيادته البحرية، لكنه احتفظ بقبرص ولم يمس مصر نفسها أي سوء، غير أن بطلميوس ساعد سلوقس على استعادة ولايته ومن ثم أنشأ تلك الدولة العانية، التي كان في ضمير الدهر أنها ستصبح أخرط منافس في المستقبل لأسرة البطالمة. وأما فيما يخص أنتيجونوس، فإن هذا لاصلح كان نصرًا دبلوماسيًا رائعاً أكسبه نفوذًا كبيرًا بين الإغريق فضلاً عن فوزه بجوف سوريا وقارياً والاعتراف له بكل الولايات الشرقية بما في ذكل ولاية سلوقس. وهذا فند الرأي القائل بأن سلوقس كان أحد أطراف صلح عام 311. وإذا كان من اليسير أن نفهم لماذا ربح أنتيجونوس بالصلح، فإنه من العسير أن نتكهن لماذا قبل أعداؤه هذا الصلح وضحوا بحليفهم سلوقس، اللهم إلا إذا كانوا قد أدركوا أنه لم يكن في وسعهم عندئذ خوض غمار حرب فاصلة.
وكان طبيعياً أني ستغل أنتيجونوس الصلح في محاولة استعادة الولايات الشرقية، وذلك بعمليات عسكرية ضد سلوقس أرجح أنها امتدت من عام 310 حتى آخر عام 308، وأنها باءت بالفشل مما اضطر أنتيجونوس إلى عقد الصلح مع سلوقس في بداية عام 307 ق.م. وانهماك أنتيجنوس طويلاً في تلك العمليات يفسر تفسيراً شافيًا ما سنراه من تطور الأحداث في الغرب، بل إن إخفاقه في قهر سلوقس كان عاملاً حامسًا في القضاء عليه أخيراً في عام 301، إذ يبدو أنه كان يتعذر تحقيق ذلك لو لم يبق سلوقس قويًا ومستقلاً، ولم تكن لديه فسحة من الوقت وفرصة لدعم قوته في الشرق وتنظيم جيشه وزيادة قوته.
مقتل الإسكنرد الرابع:
وحين كان أنتيجونوس منهمكًا في مشاغله الشرقية وقعت أحداث خطيرة في الغرب. ذلك أن الإسكندر الرابع بلغ عندئذ الثالثة عشرة من عمره تقريبًا، وأخذ بعض المقدونيين يقولون بأن الوقت قد حان ليتولى السلطة بنفسه، فأراح قاساندروس نفسه من هذه المتاعب بقتل هذا الصبي وأمه (في عام 310 أو أوائل 309), وانتهز أنتيجونوس ذلك وأرسل إلى بولوبرخون صبيًا يدعى هرقل زاعمًا أنه ابن الإسكندر الأ:بر، كما أرسل إليه مالا لتكوين جيش يهاجم به قاساندروس ويؤيد مطالبة هرقل بعرض أبيه، غير أنه عندما هاجم بولوبرخون مقدونيا في العام التالي (309) أفلح قاساندروس في التفاهم معه، فقتل هرقل وانخرط في خدمة قاسندروس.
بطلميوس يستعيد سيادته البحرية و"يحرر" الإغريق:
وقبل ذلك أصابت أنتيجونوس لطمة قاسية ترتبت عليها لطمات أشد قسوة منها. ذلك أن أخاه بولميايوس (Polemaeus) ـ وكان قد أدى إليه خدمات جليلة ضد قاساندرس كوفئ عليها بمنحه ولاية فروجيا على الدردنيل ـ ثار عليه في عام 310 وحالف قاساندروس.
ويبدو أن بطلميوس رأى الفرصة موانية لاستعادة سيادته البحرية ودعمها، فبدأ نشاطه (عام 310) بمحاولة فاشلة للاستيلاء على قيليقيا، تم وجه اهتمامه إلى قبرص فقضى على آخر ملوكها الوطنيين نيقوقريون (Nicocreon) وضم الجزيرة نهائياً وأقام أخاه منلاوس (Menelaos) حاكمًا عليها. وفي العام التالي (309) استغل بطلميوس مبدأ تحرير الإغريق، الذي اعترف به الجميع في صلح عام 311 "ليحرر" بعض المدن الإإريقية. وإذا كان بطلميوس قد فشل في الاحتفاظ بقيليقيا تراخيا (Cilicia – Tracheia) بعد طرد حاميات أنتيجونوس منها، فإنه استولى على بعض قواعد في بامفوليا ولوفيا وقاريا وهي: فاسيليس (Phaselis) وجزانثوس (Xanthus) وقاونوس (Kaunos) وهيراقليا (Heraclea) وبرسيقون (persicon) كما استولى على جزيرة قوس (Cos)، حيث قضى شتاء ذلك العام ورد على ما عرضه عليه بولمايوس من محالفته بدعوته إلى الجزيرة وإعدامه هناك.
ويحتلم أنه حوالي هذا الوقت حاول بطلميوس الزواج من كليوبترة أخت الإسكندر وكانت عندئذ في ساردس، لكن أنتيجونوس دبر قتلها. وعلى كل حال فإن برنيقي الجميلة، وكانت قد أنجبت له أرسينوي، أنجبت له في جزيرة قوس (فبراير عام 308) ابنته المحبوبة الذي خلفه على العرش.
تأليه بطلميوس:
وفي ربيع عام 308 اتجه بطلميوس على رأس أسطول كبيرة إلى أندروس (Andros) وحررها من حاميات بولمايوس وظهر في جزر القوقلاد في ثوب محررها، وبذلك خلف أنتيجونوس في عصبة الجزر التي كان قد ألفها بزعامته. وقد كافأت عصبة القوقلاد بطلميوس على "تحريرها" يرفعه لأول مرة إلى مصاف الآلهة، لكنها لم تعبده إلا فيما بعد باسم "الإله المنقذ". وبعد ذلك عرج بطلميوس على بلاد الإغريق ونزل يبرزخ قورنثة، حيث "حرر" مجاراً وعقد مؤتمراً من ممثلي البلوبونيز أعلن فيه عزمه على تحرير الإغريق وطلب إمداده بمعونة مالية ونوعية، مما أثار الشكوك في حقيقة نواياه، فوافقوا على ما طلبه لكنهم لم يقرنوا القول بالعمل. وعندما دخل سيقوون (Sicyon) وقورنثة ووضع فيهما حاميات بطلمية "لتحمي الحرية الإغريقية"، تأكدت شكوك الإغريق فلم يعبأوا أكثر بدعايته الجوفاء، وإذا كان ذلك كله يدل على أنه كان قد تنازع مع قاساندروس، فإنه لم يلبث أن عقد اتفاقًا معه وعاد سريعًا إلى الإسكندرية.
وما كان بطلميوس يستهدفه من وراء مغامرته في بلاد الإغريق ورغبته في الزواج من كليوبترا؟ أكان يرمي من وراء ذلك إلى فتح بلاد الإغريق، واكتساب حق المطالبة بعرش الإمبراطورية المقدونية أو على الأقل بعرش مقدونيا، فيتسنى له حكم عالم بحر أيجة بأجمعه، نحن نستبعد أنه كان يتطلبع إلى عرش الإمبراطورية المقدونية، إذ أنه لو كان يطمع في ذلك لقبل أن يخلف برديقاس في منصب الوصاية يوم هزمه وعرض عليه الجيش المقدوني ذلك المنصب في عام 321. ونستبعد أيضاً أنه كان يرمي إلى فتح بلاد الإغريق أو الحصول على عرش مقدونيا، لأننا نستبعد أن بطلميوس الحكيم بعيد النظر، كان يخاطر بأن يستثير عواطف الإغريق وبأن يزج بنفسه في صراع عنيف مع مقدونيا، وكان يقبض على زمامها إذ ذاك قاساندروس، حليفة الطبيعي ضد عدوهما العنيد أنتيجونوس.
حقًا أن العلاقات بين الحليفين كانت قد فترت، ولكنه إزاء تهديد خصمهما لم يكن في سوعهما أن يصطرعا، غير أن ما كان بطلميوس قد صادفه من نكبات في عام 311 وأعراض قاساندروس عن شد أزره في أثناء تلك الأزمة دفعاً بطلميوس إلى محاولة الزواج من كليوبترة ليقوى نفسه ويعزز مركز مصر ويرفع شأنها، مثل ما استخدم في ذلك من قبل دفن جثة الإسكندر فيها، كما دفعاه أيضاً إلى محاولة إحياء عصبة قورنثة والظهور أمام الإغريق في ثوب المحرر والنصير، ولاسيما أن تدخل بطلميوس في السياسة الإغريقية لم يكن أمراً جديدًا عليه. فقد رأينا كيف أنه في عام 314 رد على تصريح أنتيجونوس الذي أعلن فيه حرية الإغريق بإصدار تصريح مسائل. وسبب هذا الاهتمام بالشئون الإغريقية أنه كان ضروريًا لبلطميوس، مثل ما كان ضروريًا لسائر الولاة المقدونيين في الشرق، أن يبقى على اتصال بالعالم الإغريقي، فقد كانت تأتي من المدن الإغريقية رءوس الأموال والفنيون الذين كان بطلميوس في حاجة إليهم لتقدم مرافق مصر الاقتصادية. ومن البلاد الإغريقية أيضاً كان بطلميوس يستقدم أكثر المتطوعين والمرتزقة الذين كون منهم قوانه العسكرية.
وفضلاً عن ذلك فإن دعم نفوذ بطلميوس في أهم الموانئ الإغريقية كان يحول دون ازدياد قوة مقدونيا البحرية ويساعد بطلميوس على السيطرة على بحر أيجة. ولعل بطلميوس قد أراد أيضاً بهذه المغامرة أن يثبت لقاساندروس أنه يستطيع تهديده إذا حدثته نفسه ثانية بهجر جانبه في وقت الشدة. وأما استيلاء بطلميوس على عصبة جزر بحر أيجة فإنه كان جزءًا أساسيًا من سياسته الخارجية.
ولم تمر تلك العاصفة إلا لتهب بعدها ريح صرصر عاتية، لم تخمد إلا بعد أن عصفت بوحدة الإمبراطورية وقضت عليها قضاء مبرما. ذلك أ،ه بوفاة فيليب أرهيدايوس وأولومبياس وسجن الإسكندر الرابع لم يعد لأسرة الإسكندر الأكبر أي كيان فعلي، وكان ذلك خير حافز لتحقيق أطماع خلفاء الإسكندر. وسرعان ما أحس الجميع بأن أنتيجونوس "الأعور" (Monophthalmos)، وقد ازدهى فخارًا بما أحرزه من انتصارات باهرة، كان يتطلع إلى لم شعث الإمبراطورية في قبضته والتربع فوق عرشها، ولذلك فإن شخصيته سيطرت على تارخي الفترة التي امتدت من عام 316 حتى وفاته في عام 301. وليس معنى ذلك أنه لم يواجهه إلا نكرات، فقد أظهر قاساندروس ولوسيماخوس وبطلميوس وسلوقس من المواهب والنشاط ما لا يقل عما أبدأه أنتيجونوس، إلا أن أطماعهم كانت محدودة إذا قيست بأطماعه، إذ يبدو أنهم لم يهدفوا إلا إلى الفوز بنصيب من الإمبراطورية التي أسهموا في تفكيك أواصرها. وأما أنتيجونوس فإنه كان يرمي إلى حكم الإمبراطورية كلها، وتبعًا لذلك أثارت مشروعاته الولاة الآخرين فتكاتفوا للقضاء عليه هو وأبنه الجسور دمتريوس "محاصر المدن" (Poliorcetes)، وكان في طليعة قواد عصره.
المحالفة الأولى ضد أنتيجونوس:
وفي صيف عام 316 فر إلى مصر سلوقس والي بابل، في رفقة قوة صغيرة تتألف من خمسين فارساً. وحمل سلوقس معه أنباء مزعجة. مجملها أن قائد عام آسيا أخذ يقوم بدور الملك فيها، وذلك أنه أعدم بايثون والي ماريا وأنتيجنيس (Antigenes) قائد فرقة "الدروع القضية"، وعزل بيوقستاس (Peucestas) والي فارس، وأجترأ على أن يطلب من سلوقس بيانًا عن د خل ولايته، فاحتدم الخلاف بينهما. لكن سلوقس ـ وقد اتعظ من مصر بايثون ـ آثر الفرار إلى مصر حث أحسن بطلميوس وفادته، ولم يلبث سلوقس أن أنفذ الرسل ليستحنث قاساندروس ولوسيماخوس لمناصبة أنتيجونوس العداء. وإزاء هذا الخطر الداهم، تحالف بطلميوس وقاساندروس ولوسيماخوس مع سلوقس. وفي أوائل عام 315 أرسل الحلفاء إلى أنتيجونوس يخيرونه بين الحرب والاستجابة إلىجميع مطالبهم، وكانت: الاعتراف لبطلميوس بسوريا جميعًا وللوسيماخوس بفرويجيا على الدردنيل ولقاساندروس بقايا دوقيا ولوقيا ولسلوقس ببابل، وتوزيع أموال الإمبراطورية التي استولى عليها بعد انتصاره على يومنيس. وقد رفض أنتيجونوس مطالب الحلفاء لأنه لو قبلها لحيل بينه وبين داخل آسيا والبحر الأسود على السواء، وقصرت ممتلكاته على جزء منآسيا الصغرى لا يشمل إلا قدرًا ضئيلاً إلى جانب ولايته أو بعبارة أدق ولاياته الأصلية: فروجيا الكبرى وبامفوليا ولوقاونيا ولوقيا. وتدل الطريقة التي أدار بها دفة الحرب على أن مواهبة كانت تكاد تعادل مطامعه. ولما كان يرغب في إحياء الإمبراطورية والتربع على عرشها، فإن الاستيلاء على مقدونيا كان هدفه طوال هذه الحرب، لكنه، وقد سد لوسيماخوس الطريق أمامه ووقف بطلميوس يهدد مؤخرته، عجز عن غزو مقدونيا.
وقد اعتمد أنتيجونوس في هذا الصراع على الأساليب السياسية قدر اعتماده على القوة، ذلك أنه قبل أن يمتشق الحسام أنفذ الرسل لكسب الحلفاء وأثارة المتاعب لخصومه. وقد استمال أنتيجونوس إلى جانبه جزيرة رودس وبعض أمراء قبرص وبولوبرخون وابنه الإسكندر وكال لقاساندروس لطمة سياسية لم يستطيع محو أثرها سريعًا، وذلك بإصدار تصريح عدد فيه جرائمه ضد أسرة الإسكندر وسياسته، فإنه أتهمه أولاً بقتل أولومبياس وسجن روكسانا وابنها واغتصاب الوصاية التي لم تكن من حقه، وثانيًا بخروجه على سياسة الإسكندر لأنه بموجب هذه السياسة كان يجب أن تتمتع المدن الإغريقية بحريتها واستقلالها وألا تخضع لأية حامية أجنبية. وهذا التصريح يذكرنا بالقرار الذي كان يولوبرخون قد استخدمه من قبل ضد قاساندروس عندما اشتعل لهيب الحرب بينهما. وهكذا أفلح أنتيجونوس في أن يكسب إلى جانبه كل بلاد الإغريق تقريبًا والوريا وكذلك أبيروس، وكان فاسندروس قد أخضعها وثارت عليه. وأفلح أنتيجونوس كذلك في بذر بذور الاضطراب في ولاية لوسيماخوس، حيث أثار عليه المدن الإغريقية الواقعة على الشاطئ وكذلك الأهالي الوطنيين الذين يعيشون في الداخل.
بطلميوس يفقد جوف سوريا وسيادته البحرية:
ومنذ البادية صمم أنتيجونوس على أن يتولى بنفسه القضاء على بطلميوس، ولذلك غزا سوريا في ربيع عام 315. ولما كان أقوى من أن يقاوم، فإن بطلميوس حصن صور وانسحب مع كل السفن الحربية الفينيقية إلى مصر، فاحتل خصمه سوريا وفينيقيا وحاصر صور، لكنها لم تقع في قبضته إلا بعد خمسة عشر شهرًا. وفي تلك الأثناء عكف على بناء أسطول وعقد محالفة مع رودس وضم أسطولها إلى أسطوله، فأضحى تحت أمرته في خريف عام 314 أسطول كبير استخدمه في السيطرة على جزر الفوقلاد (Cyclades) وألف منها عصبة جعل مركزها ديلوس بعد أن تخلصت من ريقة أثينا الطويلة الأ/د. وأزاء كل هذه التدابير آلت إلى أنتيجونوس السيادة البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط، فكان ذلك ضربة قاضية على سيادة مصر البحرية. وعندما سقطت صور أخيراً في قبضة أنتيجونوس، ترك ابنه دمتريوس في غزة ليراقب بلطميوس وانسحب إلى عصامته لقضاء شتاء عام 314 فيها مصممًا على أن يقف في عام 313 موقف الدفاع في غزة، ويبدأ هجومه الحقيقي على مقدونيا.
موقعة غزة عام 312:
وقد حاول بطلميوس أن يقضي على أثر تصريح أنتيجونوس بتصريح مسائل أعلن فيه بدوره أن الإغريق يجب أن يكونوا أحراراً لكنه لم يكن لذلك أثر، إذ أنه لم يكن في وسع أحد اعتبار هذا التصريح جديًا لصدوره عن وال كان الجميع يعرفون أنه لا يميل إلى تحرير المدن الخاضعة لسلطانه، ولاسيما أنه عندما صدقت قورينايئة هذا التصريح وثارت على حاكمها أوفلاس، بادر بطلميوس إلى القضاء على هذه الثورة. ومع أ،ه أضاع في ذلك أغلب عام 313 إلا أنه استطاع أن يقضي على أنصار أنتيجونوس في قبرص ويقيم نيقوقريون (Nicocreon) السلامسي حاكمًا عليها. وقد شهد هذا العام أيضاً تضييق الخناق على قاساندروس بوجه خاص، إلى حد أنه دخل مع أنتيجونوس في مفاوضات، إلا أنها باءت بالفشل. ولكي يخفف بطلميوس الضغط على حلفائه ويتخلص من خطر اقدام دمتريوس على غزو مصر، هاجمه في ربيع عام 312 وأحرز عليه عند غزة نصراً مبينًا كانت له نتائج بعيدة الأثر، فقد ترتب على ذلك أن استرد بطلميوس جوف سوريا وخف الضغط على قاساندروس. وكان أهم من ذلك أن سلوقس وجد الطريق مفتوحًا أمامه للعودة إلى ولايته، التي استردها بسهولة في أكتوبر عام 312. ويعتبر هذا التاريخ بداية عهد السلوقيين.
نكبات بطلمية:
ولم يهنأ بطلميوس بنصره طويلاً، ففي عام 311 ثأر دمتريوس لنفسه بأن أسر في شمال سوريا قوة بطلمية قوامها 7000 جندي. هذا إلى أن أنتيجونوس ـ وقد قرر تصفية حسابه مع بطلميوس وسلوقس مما شغله عن غزو أوروبا في ذلك العام ـ لم يلبث أن انضم بقواته إلى قوات ابنه وساترد جوف سوريا الذي سارع بطلميوس إلى إخلائه تفاديًا لمجابهة أنتيجونوس. وتضييقًا للخناق على بطلميوس يبدو أن أنتيجونوس ساعد أوفلاس على الاستقلال بقورينابئة، وأرسل حملتين ضد البتراء من أجل حرمان مصر طريق القوافل بين البتراء وغزة، كما أرسل حملة ثالثة نحو البحر الميت لحرمان مصر قطراته الضروري للسفن والتحنيط، لكن هذه الحملات جميعًا باءت بالفشل. ولما كانت عودة سلوقس إلى بابل تنطوي على أخطار داهمة تتهدد كل مشروعات أنتيجونوس، فإنه عهد إلى ابنه دمتريوس بغزو بابل. ويبدو أن أهم نتيجة لهذه الحملة غير الموفقة (عام 311) كانت اقتناع أنتيجونوس بضرورة عزل سلوقس عن حلفائه، وذلك بمصالحة هؤلاء الحلفاء إلى أن يقضي على سلوقس الذي كان يهدد مؤخرته ويقف حائلاً دون ما كان يستطيع الحصول عليه من الولايات الشرقية من الرجال والخيول والقيلة والأموال.
صلح عام 211:
وفي ذلك العام (311) عقد الصلح بين أنتيجونوس وقاساندروس ولوسيماخوس، ثم مع بطلميوس أيضاً، وساتغل أنتيجونوس هذا الصلح للقيام بدعاية واسعة بين الإغريق، فقد أذاع فيهم أنه لم يقبل طلبات قاسندروس ويعرض عن سحق بطلميوس عندما وقف أمامه وحيدًأ، إلا لحرصه على أن ينعم الإغريق بالهدوء والسكينة بعد أن أنهكتهم الحرب. وقد تضمنت شروط الصلح (أولاً) أن يحتفظ قاساندروس بسيطرته على مقدونيا حتى عام 305 عندما يبلغ الإسكندر الرابع وشده ويتولى الحكم بنفسه. (وثانيًا) أن تحرر المدن الإغريقية ولا تستبقى فيها حاميات.
ومما يجدر بالملحاظة أن الشرط الأول كان حافزًا لقاساندروس على التخلص من الإسكندر الرابع، وأن لاشرط الثالث زاد أنتيجونوس مكانة بين الناس وأعطاه المعاذير لبدء الحرب من جديد متى شاء. وتتلخص نتائج الحرب في أن فاسندروس فقد جانبًا كبيراً من بلاد الإغريق، لكنه احتفظ بابيروس ووطد مركزه في مقدونيا، وأن لوسيماخوس دعم مركزه إلى حد كبير، وأن بطلميوس فقد جوف سوريا وقورينايئة وسيادته البحرية، لكنه احتفظ بقبرص ولم يمس مصر نفسها أي سوء، غير أن بطلميوس ساعد سلوقس على استعادة ولايته ومن ثم أنشأ تلك الدولة العانية، التي كان في ضمير الدهر أنها ستصبح أخرط منافس في المستقبل لأسرة البطالمة. وأما فيما يخص أنتيجونوس، فإن هذا لاصلح كان نصرًا دبلوماسيًا رائعاً أكسبه نفوذًا كبيرًا بين الإغريق فضلاً عن فوزه بجوف سوريا وقارياً والاعتراف له بكل الولايات الشرقية بما في ذكل ولاية سلوقس. وهذا فند الرأي القائل بأن سلوقس كان أحد أطراف صلح عام 311. وإذا كان من اليسير أن نفهم لماذا ربح أنتيجونوس بالصلح، فإنه من العسير أن نتكهن لماذا قبل أعداؤه هذا الصلح وضحوا بحليفهم سلوقس، اللهم إلا إذا كانوا قد أدركوا أنه لم يكن في وسعهم عندئذ خوض غمار حرب فاصلة.
وكان طبيعياً أني ستغل أنتيجونوس الصلح في محاولة استعادة الولايات الشرقية، وذلك بعمليات عسكرية ضد سلوقس أرجح أنها امتدت من عام 310 حتى آخر عام 308، وأنها باءت بالفشل مما اضطر أنتيجونوس إلى عقد الصلح مع سلوقس في بداية عام 307 ق.م. وانهماك أنتيجنوس طويلاً في تلك العمليات يفسر تفسيراً شافيًا ما سنراه من تطور الأحداث في الغرب، بل إن إخفاقه في قهر سلوقس كان عاملاً حامسًا في القضاء عليه أخيراً في عام 301، إذ يبدو أنه كان يتعذر تحقيق ذلك لو لم يبق سلوقس قويًا ومستقلاً، ولم تكن لديه فسحة من الوقت وفرصة لدعم قوته في الشرق وتنظيم جيشه وزيادة قوته.
مقتل الإسكنرد الرابع:
وحين كان أنتيجونوس منهمكًا في مشاغله الشرقية وقعت أحداث خطيرة في الغرب. ذلك أن الإسكندر الرابع بلغ عندئذ الثالثة عشرة من عمره تقريبًا، وأخذ بعض المقدونيين يقولون بأن الوقت قد حان ليتولى السلطة بنفسه، فأراح قاساندروس نفسه من هذه المتاعب بقتل هذا الصبي وأمه (في عام 310 أو أوائل 309), وانتهز أنتيجونوس ذلك وأرسل إلى بولوبرخون صبيًا يدعى هرقل زاعمًا أنه ابن الإسكندر الأ:بر، كما أرسل إليه مالا لتكوين جيش يهاجم به قاساندروس ويؤيد مطالبة هرقل بعرض أبيه، غير أنه عندما هاجم بولوبرخون مقدونيا في العام التالي (309) أفلح قاساندروس في التفاهم معه، فقتل هرقل وانخرط في خدمة قاسندروس.
بطلميوس يستعيد سيادته البحرية و"يحرر" الإغريق:
وقبل ذلك أصابت أنتيجونوس لطمة قاسية ترتبت عليها لطمات أشد قسوة منها. ذلك أن أخاه بولميايوس (Polemaeus) ـ وكان قد أدى إليه خدمات جليلة ضد قاساندرس كوفئ عليها بمنحه ولاية فروجيا على الدردنيل ـ ثار عليه في عام 310 وحالف قاساندروس.
ويبدو أن بطلميوس رأى الفرصة موانية لاستعادة سيادته البحرية ودعمها، فبدأ نشاطه (عام 310) بمحاولة فاشلة للاستيلاء على قيليقيا، تم وجه اهتمامه إلى قبرص فقضى على آخر ملوكها الوطنيين نيقوقريون (Nicocreon) وضم الجزيرة نهائياً وأقام أخاه منلاوس (Menelaos) حاكمًا عليها. وفي العام التالي (309) استغل بطلميوس مبدأ تحرير الإغريق، الذي اعترف به الجميع في صلح عام 311 "ليحرر" بعض المدن الإإريقية. وإذا كان بطلميوس قد فشل في الاحتفاظ بقيليقيا تراخيا (Cilicia – Tracheia) بعد طرد حاميات أنتيجونوس منها، فإنه استولى على بعض قواعد في بامفوليا ولوفيا وقاريا وهي: فاسيليس (Phaselis) وجزانثوس (Xanthus) وقاونوس (Kaunos) وهيراقليا (Heraclea) وبرسيقون (persicon) كما استولى على جزيرة قوس (Cos)، حيث قضى شتاء ذلك العام ورد على ما عرضه عليه بولمايوس من محالفته بدعوته إلى الجزيرة وإعدامه هناك.
ويحتلم أنه حوالي هذا الوقت حاول بطلميوس الزواج من كليوبترة أخت الإسكندر وكانت عندئذ في ساردس، لكن أنتيجونوس دبر قتلها. وعلى كل حال فإن برنيقي الجميلة، وكانت قد أنجبت له أرسينوي، أنجبت له في جزيرة قوس (فبراير عام 308) ابنته المحبوبة الذي خلفه على العرش.
تأليه بطلميوس:
وفي ربيع عام 308 اتجه بطلميوس على رأس أسطول كبيرة إلى أندروس (Andros) وحررها من حاميات بولمايوس وظهر في جزر القوقلاد في ثوب محررها، وبذلك خلف أنتيجونوس في عصبة الجزر التي كان قد ألفها بزعامته. وقد كافأت عصبة القوقلاد بطلميوس على "تحريرها" يرفعه لأول مرة إلى مصاف الآلهة، لكنها لم تعبده إلا فيما بعد باسم "الإله المنقذ". وبعد ذلك عرج بطلميوس على بلاد الإغريق ونزل يبرزخ قورنثة، حيث "حرر" مجاراً وعقد مؤتمراً من ممثلي البلوبونيز أعلن فيه عزمه على تحرير الإغريق وطلب إمداده بمعونة مالية ونوعية، مما أثار الشكوك في حقيقة نواياه، فوافقوا على ما طلبه لكنهم لم يقرنوا القول بالعمل. وعندما دخل سيقوون (Sicyon) وقورنثة ووضع فيهما حاميات بطلمية "لتحمي الحرية الإغريقية"، تأكدت شكوك الإغريق فلم يعبأوا أكثر بدعايته الجوفاء، وإذا كان ذلك كله يدل على أنه كان قد تنازع مع قاساندروس، فإنه لم يلبث أن عقد اتفاقًا معه وعاد سريعًا إلى الإسكندرية.
وما كان بطلميوس يستهدفه من وراء مغامرته في بلاد الإغريق ورغبته في الزواج من كليوبترا؟ أكان يرمي من وراء ذلك إلى فتح بلاد الإغريق، واكتساب حق المطالبة بعرش الإمبراطورية المقدونية أو على الأقل بعرش مقدونيا، فيتسنى له حكم عالم بحر أيجة بأجمعه، نحن نستبعد أنه كان يتطلبع إلى عرش الإمبراطورية المقدونية، إذ أنه لو كان يطمع في ذلك لقبل أن يخلف برديقاس في منصب الوصاية يوم هزمه وعرض عليه الجيش المقدوني ذلك المنصب في عام 321. ونستبعد أيضاً أنه كان يرمي إلى فتح بلاد الإغريق أو الحصول على عرش مقدونيا، لأننا نستبعد أن بطلميوس الحكيم بعيد النظر، كان يخاطر بأن يستثير عواطف الإغريق وبأن يزج بنفسه في صراع عنيف مع مقدونيا، وكان يقبض على زمامها إذ ذاك قاساندروس، حليفة الطبيعي ضد عدوهما العنيد أنتيجونوس.
حقًا أن العلاقات بين الحليفين كانت قد فترت، ولكنه إزاء تهديد خصمهما لم يكن في سوعهما أن يصطرعا، غير أن ما كان بطلميوس قد صادفه من نكبات في عام 311 وأعراض قاساندروس عن شد أزره في أثناء تلك الأزمة دفعاً بطلميوس إلى محاولة الزواج من كليوبترة ليقوى نفسه ويعزز مركز مصر ويرفع شأنها، مثل ما استخدم في ذلك من قبل دفن جثة الإسكندر فيها، كما دفعاه أيضاً إلى محاولة إحياء عصبة قورنثة والظهور أمام الإغريق في ثوب المحرر والنصير، ولاسيما أن تدخل بطلميوس في السياسة الإغريقية لم يكن أمراً جديدًا عليه. فقد رأينا كيف أنه في عام 314 رد على تصريح أنتيجونوس الذي أعلن فيه حرية الإغريق بإصدار تصريح مسائل. وسبب هذا الاهتمام بالشئون الإغريقية أنه كان ضروريًا لبلطميوس، مثل ما كان ضروريًا لسائر الولاة المقدونيين في الشرق، أن يبقى على اتصال بالعالم الإغريقي، فقد كانت تأتي من المدن الإغريقية رءوس الأموال والفنيون الذين كان بطلميوس في حاجة إليهم لتقدم مرافق مصر الاقتصادية. ومن البلاد الإغريقية أيضاً كان بطلميوس يستقدم أكثر المتطوعين والمرتزقة الذين كون منهم قوانه العسكرية.
وفضلاً عن ذلك فإن دعم نفوذ بطلميوس في أهم الموانئ الإغريقية كان يحول دون ازدياد قوة مقدونيا البحرية ويساعد بطلميوس على السيطرة على بحر أيجة. ولعل بطلميوس قد أراد أيضاً بهذه المغامرة أن يثبت لقاساندروس أنه يستطيع تهديده إذا حدثته نفسه ثانية بهجر جانبه في وقت الشدة. وأما استيلاء بطلميوس على عصبة جزر بحر أيجة فإنه كان جزءًا أساسيًا من سياسته الخارجية.
يسري حماده- عضو متميز
-
عدد الرسائل : 287
العمر : 55
العمل/الترفيه : الرياضيات
المزاج : الحمد لله
نقاط : -1
تاريخ التسجيل : 06/10/2008
رد: بطليموس الاول
استرداد قوربنايئة:
وإذا كانت سيادة بحر أيجة ضرورية لكيان البطالمة السياسي، فإنه كانت هناك أقاليم أخرى مثل قورينايئة لا غنى لهم عنها لضمان استقلالهم، ولذلك فإنه عندما كان بطلميوس الأول في بلاد الإغريق وسنحت فرصة لاسترداد قورينايئة لم يتوان في العودة سريعًا إلى مصر لهذا الغرض، لأن قورينايئة كانت تعني مصر مباشرة، ومصر كانت دائمًا قلب مملكة البطالمة النابض. وقد أثبتت الأيام أن ضم قورينايئة لم يزد في قوة بطلميوس بل أصبح بمثابة شوكة في جانبه خلفائه، فمن ناحية لم يمثل أهلها للخوضع لسلطة أجنبية لأنهم اعتادوا على الحرية والاستقلال، ومن ناحية أخرى كانت الأطماع الشخصية تغرى حكامها على الخروج على طاعة الملك. وقد كابد بطلميوس جانبًا من هذه المتاعب، فلم تكد تنقضي تسعة أعوام على إخضاع قورينايئة وإقامة أوفلاس حاكمًا عليها حتى هبت ثائرة (313) فأنقذ بطلميوس إليها حملة تأديبية قضت على الثورة وأسندت مقاليد الأمور ثانية إلى أوفلاس. ولم يكد يمر على ذلك عامان (311) حتى انتهز أوفلاس فرصة النكبات التي نزلت بيطلميوس في سوريا للاستقلال بقورينايئة، ويبدو أن أنتيجونوس ساعد أوفلاس ليضيق الخناق على بطلميوس. ولكي يدعم أوفلاس مركزه تحالف مع أجاثوقلس السراقسي، وكان مشتبكًا في حرب مع قرطجنة، ووعد أوفلاس ليضيق الخناق على بطلميوس. ولكي يدعم أوفلاس مركزه تحالف مع أجاثوقلس السراقوسي، وكان مشتبكًا في حرب مع قرطجنة، ووعد أوفلاس بأن ينزل له عن الفتوحات التي يحرزانها معًا في إفريقيا بشرط أن يساعده في إخضاع قرطاجنة. غير أنه لحسن حظ بطلميوس اختلف أجاثوقاس مع أوفلاس وقضى عليه (عام 309)، لكنه كان يتعين بطلميوس أن يعيد بسط سيطرته على قورينايئة، ولم يتوان في إسناد هذه المهمة إلى ماجاس ابن زوجه برنيقي (308) الذي يبدو أنه لم يلق عناء في ذلك وأصبح نائب الملك في قورينايئة.
دمتريوس "يحرر" أثيناء ومجازًا من حاميات فاساندرويس:
ولما لم يكن في وسع أنتيجوس أن يترك سيادة بحر أيجة في قبضة بطلميوس وسيادة بلاد بلاد الإغريق في قبضة قاسندروس، لأن ذلك كان يكشف جبهته الغربية بل يتهدد كل مركزه في آسيا، فإنه بادر إلى عقد الصلح مع سلوقس ليوجه اهتمامه إلى الغرب. وقد وجد أنتيجونوس الفرصة سانحة ليقوم بدور "محرر" الإغريق، فأنقذ ابنه دمتريوس إلى بلاد الإغريق حيث نزل في أنيقا على رأس قوة كبيرة (صيف عام 307) وطرد الحامية المقدونية من مونوخيا (Munychia) وأعلن تحرير أثينا وعزل دمتريوس الفليرى وأعاد الديمقراطية ثانية. واعترافاً بفضل أنتيجونوس ودمتريوس أغدق الأثينيون عليها مظاهر تشريف كثيرة كان من بينها عبادتهما باسم "الإلهين المنقذين" وخلع لقب ملك على كل منهما. وفي أثناء محاصرة حامية مونوخيا دخل دمتريوس مجاراً وطرد منها الحامية التي كان قاساندروس قد أقامها هناك. وبعد أن كال أنيجونوس هذه الضربات القاصمة لقاساندروس في بلاد الإغريق، استدعى دمتريوس من هناك ليصغى حسابه مع بطلميوس.
هزيمة بلطميوس في قبرص وضياع سيادته البحرية:
ولما كان أنتيجو نوس يستهدف تحطيم أسطول بطلميوس، وكانت قبرص أهم قواعده البحرية، فإنه أنقذ دمتريوس لمهاجمتها. وفي ربيع عام 306 وقعت عند قبرص ملحمة فاصلة كانت نكبة على ب طلميوس، ذلك أن قائده منلاوس حوصر في ميناء سلاميس، وعندما خف بطلميوس لنجدته مني بهزيمة بحرية فادحة، وبذلك ثأر دمتريوس لهزيمته عند غزة وتحطم الأسطول البطلمي وفقدت مصر قبرص وكل ممتلكاتها الخارجية وسيادة البحر وأصبحت معرضة لخطر مستطير. ولم تعوض هذه الهزيمة إلا ببطء وبعد مدة طويلة اضطر بطلميوس في خلالها إلى العدول عن اتباع سياسة هجومية وإلى العودة ثانية إلى سياسة التمهل والعمل على الإفادة من الحوادث أكثر من الت حكم في تكييف مجراها.
خلفاء الإسكندر يتخذون لقب ملك:
وقد كانت لهذه الهزيمة نتيجة مباشرة أخرى، إذ أنه عندما بلغ أنتيجونوس نبأ النصر اتخذ لنفسه لقب ملك وخلع هذا اللقب على ابنه. ولم يكن معنى ذلك أ، أنتيجونوس اكتفى باعتبار نفسه ملكًا على نصيبه في آسيا بل اعتبر نفسه هو وابنه مليكي الإمبراطورية المقدونية، التي خلا عرشها بالقضاء على أسرة الإسكندر. وتدل نقودهما على أنهما أعتبرا حقهما في هذه الإمبراطورية منذ وفاة الإسكندر.
وتذكر المصادر القديمة أن بطلميوس حذا حذو أنتيجونوس ودمتريوس باتخاذه هو أيضاً لقب ملك، لكن سجل ملوك مصر يؤرخ ملكية يطلميوس الأول ابتداء من العام المصري الذي يمتد من 7نوفمبر عام 305 حتى 6 نوفمبر عام 304. ولم يترتب على اتخاذ بطلميوس لقب ملك في عام 305 اعتبار ذلك العام بداية لعهده، بدليل أن تأريخ الوثائق الرسمية استمر على غرار النمط نفسه الذي كان متبعًا قبل ذلك العام من حيث اعتبار عام 323 بداية لعهد بطلميوس. وإذا كان هناك خلاف حول التاريخ الذي أقدمه فيه خلفاء الإسكندر على اتخاذ هذه الخطوة التي أكدوا بها استقلال كل منهم بولايته وانحلال الإمبراطورية فلا خلاف حول اتخاذ الخطوة نفسها.
فشل أنتيجونوس في غزو مصر:
بعد هذا النصر المبين، اعتقد أنتيجونوس أنه كان في وسعه التخلص من بطلميوس، ولذلك فإنه في خريف عام 306 أعد هو ودمتريوس جيشاً وأسطولاً قويين لمحاولة ما فشل فيه يرديقاس من قبل. فقد كانت قواتهما تتألف من 80.000 جندي من المشاة و8000 من الفرسان و82 فيلا تحت قيادة أنتيجونوس، وأسطول يتكون من 150 سفينة حربية و100 سفينة للنقل على رأسها دمتريوس. وزودت هذه الحملة الهائلة بكميات كبيرة من الحبوب وغذاء الدواب. ولقد كان مجهودًا جباراً لكنه تحطم أمام دفاع بطلميوس عن دولته.
حصار رودس، بطلميوس "الإله المنقذ":
وعندما فشل أنتيجونوس في الاستيلاء على مصر، بدت له فكرة تضييق الخناق عليها من ناحية البحر بالاستيلاء على جزيرة رودس، مع أنها لم تكن من ممتلكات بطلميوس، بل كانت صديقة أنتيجونوس في عام 315 وساعدته في بناء أسطوله غير أنه كانت لها علاقات وثيقة مع مصر منذ أن أحرز بطلميوس سيادته البحرية، ورفضت الانحياز إلى جانب أنتيجونوس ضده في أثناء حملة قبرص. وفضلاً عن ذلك فإنها كانت أهم عميل تجاري لمصر في البحر المتوسط. وإزاء ذلك كله كان أنتيجرنوس يخشى أن تقوم رودس بمساعدة بطلميوس في إعادة بناء أسطوله. وتبعًا لذلك أنقذ دمتريوس إلى رودس في ربيع عام 305 على رأس قوة بحرية كبيرة، لكن رودس قاومت الغزو بشجاعة فائقة، فحاصرها دمتريوس دون جدوى نجوا من خمسة عشر شهرًا وكان هذا الحصار سبب لقب "محاصر المدن" الذي خلع عليه. وأخيراً بفضل وساطة الأيتوليين عقد الصلح بين الطرفين في صيف عام 304 وقيلت رودس محالفة أنتيجونوس، وإنما بشرط ألا تعادي بطلميوس. ولما كان بطلميوس قد فقد أسطوله منذ هزيمته عند قبرص، فإنه لم يكن في وسعه نجدة رودس، لكنه أمدها ببعض الجنود المرتزقة وكميات كبيرة من المؤنة فحفظت لبطلميوس هذا الجميل. ويحدثنا ديودوروس بأنه بعد فشل دمتريوس في حصار رودس، أرسل مواطنوها إلى واحة سيوة سيتلهمون وحي آمون إذا كان ينصحهم بإظهار إجلالهم نحو بطلميوس برفعه إلى مصاف الآلهة، وعندما أتاهم الرد بالإيجاب أقاموا له هيكلاً أطلقوا عليه اسم بطولمايون (Ptolemaeon). ويذكر باوسانياس أن رودس عبدت عندئذ بطلميوس وخلعت عليه لقب "الإله المنقذ" وهو اللقب الذي عرف به في التاريخ.
ويرجع قبول أنتيجونوس الاتفاق مع رودس إلى أن قوة قاساندروس كانت آخذة في الازدياد في بلاد الإغريق حتى أوشك أن يستعيد أكثرها، ولذلك صدرت الأوامر إلى دمتريوس بالإبحار إلى البلاد الإغريق حيث أحرز انتصارات حاسمة. ذلك أنه أنقذ أثينا، وكانت مشتبكة في حرب مع قاساندروس منذ أربعة أعوام (307-304) وأعاد فتح بلاد الإغريق الوسطى، وحرر البلوبونيز، وأعاد إنشاء عصبة قورنثة فاختارته قائدًا لها مكان الإسكندر الأكبر (عام 303). وإحياء هذه العصبة خير دليل على عزوف أنتيجونوس عن سياسة إخضاع الإغريق، وهي السياسة التي كان ينتهجها أنتيباتروس وقاساندروس، وعلى ميله إلى سياسة فيليب الثاني والإسكندر الأكبر وهي سياسة المحالفة على قدم المساواة مع الدول المتحدة الإغريقية.
المحالفة الثانية ضد أنتيجونوس:
ولقد تحرج عندئذ مركز قاساندروس، إزاء ضياع أكثر بلاد الإغريق من قبضته بعد ضياع أبيروس، فحاول التفاهم مع أنتيجونوس، لكن هذا طلب منه التسليم دون قيد أو شرط. فلم يكن من قاسندروس إلا أنه اتصل بلوسيماخوس واتفقا على إعداد حملة قوية، وعلى التماس العون من بطلميوس وسلوقس.
ولما كان القضاء على قاساندروس ينذر الجميع بأشد المخاطر من أنتيجونوس، فإن هؤلاء الملوك الأربعة جددوا في عام 302 محالفة عام 315، إلا أنها لم ترم هذه المرة إلى كبح جماح أطماع أنيتجونوس فحسب بل إلى القضاء عليه. وقد اتفق الحلفاء على أن يعبر لوسيماخوس الدردنيل ويغزو آسيا. وأن يزحف سلوقس غربًا لينضم إليه. وفي خلال ذلك كان يتعين على بطلميوس أن يحتل سوريا، وعلى قاساندروس أن يلاقى دمتريوس الذي غزا تساليًا في ربيع عام 302. وقد كان الحلفاء يتوقعون أن خطتهم، التي رسموها للحرب في آسيا، ستؤدي إلى استدعاء دمتريوس من بلاد الإغريق. وفعلاً تحقق ذلك، إذ استدعى أنتيجونوس ابنه عندما رأى أن لوسيماخوس عبر الدردنيل وأن سلوقس بدأ زحفه غربًا، لكنه لم يكن لاستدعاء دمتريوس فائدة لأن لوسيماخوس استطاع بسلسلة من المناورات الماهرة أن ينضم إلى سلوقس. وعند أبسوس (Ipsos) في فروجيا قضى في "معركة الملوك" على الجيش الهائل الذي كان يقوده أنتيجونوس ودمتريوس. ويعزى سبب هذه الهزيمة المنكرة إلى حمية دمتريوس، الذي حالفه النصر في بداية الأمر، فأسرف في مطاردة فرسان سلوقس بينما اقتحمت فيلة العدو فيالق أنتيجونوس وضيقت الخناق عليها قوات سلوقس ولو سيماخوس فتبدد شملها وخر أنتيجونوس صريمًا وهو يردد هذه الصيحة المؤثرة: "سيأتي دمتريوس لانقاذي". لكن دمتريوس لم يأت إلا بعد فوات الأوان، وإذا أدرك عبث المقاومة ولي مديرًا إلى أفسوس مع فريق من مشاته وفرسانه. وبالقضاء على أنتيجونوس في الثمانين من عمره (عام 301)، قضى على أكبر محاولة أكبر محاولة لإحياء إمبراطورية الإسكندر الأكبر ثانية.
بداية المشكلة السورية:
وما الدور الذي قام به بطلميوس في هذا الصراع؟ لقد اكتفى بطلميوس بغزو سوريا في ربيع عام 301 عندما برحها أنتيجونوس ليعبر جبال الطوروس ويلاقي لوسيماخوس، ثم بادر بإخلاء سوريا عندما أتاه نبأ كاذب فحواه أن لوسيماخوس قد هزم وأن أنتيجونوس في طريقه صوب سوريا. ولا يمكن تفسير هذا الدور غير المشرف الذي قام به بطلميوس إلا بأنانيته، إذ يبدو أنه اتبع مع حلفائه في هذا الصراع ضد بولوبرخون ويمنيس، فقد كان صالحه دائمًا في أن يستنفد الآخرون قواهم في محاربة بعضهم بعضاً، بينما يحتفظ هو بقواه سليمة ليستطيع تنفيذ سياسته. لكن بطلميوس تخطى نطاق الحكمة هذه المرة، إذ أنه أغضب حلفاءه بانسحابه من سوريا، فقرروا أنه لم يقم نحوهم بخدمة يستحق عليها نصيبًا من الأسلاب، ولذلك أبوا عليه جوف سوريا الذي كان قد وعد به من قبل؛ بينما اقتسم معظم الأسلاب سلوقس ولوسيماخوس، اللذان اضطلعا بالعبء الأكبر في الحرب. فقد فاز أولهما بكل سوريا وآسيا الصبري ح تى منتصف فورجيا الكبرى، وثانيهما بغرب آسيا الصغرى حتى منتصف فورجيا. ولم يحصل قاساندروس لنفسه على أية ممتلكات أسيوية، لكن أخاه بلايستارخوس (Pleistarchos) نال الأقاليم الممتدة على ساحل آسيا الصغرى الجنوبي من قيليقيا حتى قاربًا.
وإذا كانت سياسة الانكماش في الحرب قد ساعدت بطلميوس أكثر من مرة في الاحتفاظ بقوته فإنها عادت عليه هذه المرة بالوبال، فقد أصبحت ملكية جوف سوريا موضع خلاف دائم بين البطالمة والسلوقيين، مما أفضى إلى سلسلة طويلة من الحروب كان لها أسوأ الأثر في كيان دولة البطالمة. ولذلك نرى أنه ليس من التعسف في الرأي القول بأن بطلميوس الذي وضع دعائم مملكة البطالمة في مصر قد أوردت خلفاءه فيما أورثهم أحد المعاول التي فوضت تلك الدعائم. وهكذا نرى ملوك العصر الهيليسي يحيون من جديد المنافسة القديمة بين فراعنة مصر والأباطرة الآسيويين من أجل هذه المنطقة.
وإذا كانت سيادة بحر أيجة ضرورية لكيان البطالمة السياسي، فإنه كانت هناك أقاليم أخرى مثل قورينايئة لا غنى لهم عنها لضمان استقلالهم، ولذلك فإنه عندما كان بطلميوس الأول في بلاد الإغريق وسنحت فرصة لاسترداد قورينايئة لم يتوان في العودة سريعًا إلى مصر لهذا الغرض، لأن قورينايئة كانت تعني مصر مباشرة، ومصر كانت دائمًا قلب مملكة البطالمة النابض. وقد أثبتت الأيام أن ضم قورينايئة لم يزد في قوة بطلميوس بل أصبح بمثابة شوكة في جانبه خلفائه، فمن ناحية لم يمثل أهلها للخوضع لسلطة أجنبية لأنهم اعتادوا على الحرية والاستقلال، ومن ناحية أخرى كانت الأطماع الشخصية تغرى حكامها على الخروج على طاعة الملك. وقد كابد بطلميوس جانبًا من هذه المتاعب، فلم تكد تنقضي تسعة أعوام على إخضاع قورينايئة وإقامة أوفلاس حاكمًا عليها حتى هبت ثائرة (313) فأنقذ بطلميوس إليها حملة تأديبية قضت على الثورة وأسندت مقاليد الأمور ثانية إلى أوفلاس. ولم يكد يمر على ذلك عامان (311) حتى انتهز أوفلاس فرصة النكبات التي نزلت بيطلميوس في سوريا للاستقلال بقورينايئة، ويبدو أن أنتيجونوس ساعد أوفلاس ليضيق الخناق على بطلميوس. ولكي يدعم أوفلاس مركزه تحالف مع أجاثوقلس السراقسي، وكان مشتبكًا في حرب مع قرطجنة، ووعد أوفلاس ليضيق الخناق على بطلميوس. ولكي يدعم أوفلاس مركزه تحالف مع أجاثوقلس السراقوسي، وكان مشتبكًا في حرب مع قرطجنة، ووعد أوفلاس بأن ينزل له عن الفتوحات التي يحرزانها معًا في إفريقيا بشرط أن يساعده في إخضاع قرطاجنة. غير أنه لحسن حظ بطلميوس اختلف أجاثوقاس مع أوفلاس وقضى عليه (عام 309)، لكنه كان يتعين بطلميوس أن يعيد بسط سيطرته على قورينايئة، ولم يتوان في إسناد هذه المهمة إلى ماجاس ابن زوجه برنيقي (308) الذي يبدو أنه لم يلق عناء في ذلك وأصبح نائب الملك في قورينايئة.
دمتريوس "يحرر" أثيناء ومجازًا من حاميات فاساندرويس:
ولما لم يكن في وسع أنتيجوس أن يترك سيادة بحر أيجة في قبضة بطلميوس وسيادة بلاد بلاد الإغريق في قبضة قاسندروس، لأن ذلك كان يكشف جبهته الغربية بل يتهدد كل مركزه في آسيا، فإنه بادر إلى عقد الصلح مع سلوقس ليوجه اهتمامه إلى الغرب. وقد وجد أنتيجونوس الفرصة سانحة ليقوم بدور "محرر" الإغريق، فأنقذ ابنه دمتريوس إلى بلاد الإغريق حيث نزل في أنيقا على رأس قوة كبيرة (صيف عام 307) وطرد الحامية المقدونية من مونوخيا (Munychia) وأعلن تحرير أثينا وعزل دمتريوس الفليرى وأعاد الديمقراطية ثانية. واعترافاً بفضل أنتيجونوس ودمتريوس أغدق الأثينيون عليها مظاهر تشريف كثيرة كان من بينها عبادتهما باسم "الإلهين المنقذين" وخلع لقب ملك على كل منهما. وفي أثناء محاصرة حامية مونوخيا دخل دمتريوس مجاراً وطرد منها الحامية التي كان قاساندروس قد أقامها هناك. وبعد أن كال أنيجونوس هذه الضربات القاصمة لقاساندروس في بلاد الإغريق، استدعى دمتريوس من هناك ليصغى حسابه مع بطلميوس.
هزيمة بلطميوس في قبرص وضياع سيادته البحرية:
ولما كان أنتيجو نوس يستهدف تحطيم أسطول بطلميوس، وكانت قبرص أهم قواعده البحرية، فإنه أنقذ دمتريوس لمهاجمتها. وفي ربيع عام 306 وقعت عند قبرص ملحمة فاصلة كانت نكبة على ب طلميوس، ذلك أن قائده منلاوس حوصر في ميناء سلاميس، وعندما خف بطلميوس لنجدته مني بهزيمة بحرية فادحة، وبذلك ثأر دمتريوس لهزيمته عند غزة وتحطم الأسطول البطلمي وفقدت مصر قبرص وكل ممتلكاتها الخارجية وسيادة البحر وأصبحت معرضة لخطر مستطير. ولم تعوض هذه الهزيمة إلا ببطء وبعد مدة طويلة اضطر بطلميوس في خلالها إلى العدول عن اتباع سياسة هجومية وإلى العودة ثانية إلى سياسة التمهل والعمل على الإفادة من الحوادث أكثر من الت حكم في تكييف مجراها.
خلفاء الإسكندر يتخذون لقب ملك:
وقد كانت لهذه الهزيمة نتيجة مباشرة أخرى، إذ أنه عندما بلغ أنتيجونوس نبأ النصر اتخذ لنفسه لقب ملك وخلع هذا اللقب على ابنه. ولم يكن معنى ذلك أ، أنتيجونوس اكتفى باعتبار نفسه ملكًا على نصيبه في آسيا بل اعتبر نفسه هو وابنه مليكي الإمبراطورية المقدونية، التي خلا عرشها بالقضاء على أسرة الإسكندر. وتدل نقودهما على أنهما أعتبرا حقهما في هذه الإمبراطورية منذ وفاة الإسكندر.
وتذكر المصادر القديمة أن بطلميوس حذا حذو أنتيجونوس ودمتريوس باتخاذه هو أيضاً لقب ملك، لكن سجل ملوك مصر يؤرخ ملكية يطلميوس الأول ابتداء من العام المصري الذي يمتد من 7نوفمبر عام 305 حتى 6 نوفمبر عام 304. ولم يترتب على اتخاذ بطلميوس لقب ملك في عام 305 اعتبار ذلك العام بداية لعهده، بدليل أن تأريخ الوثائق الرسمية استمر على غرار النمط نفسه الذي كان متبعًا قبل ذلك العام من حيث اعتبار عام 323 بداية لعهد بطلميوس. وإذا كان هناك خلاف حول التاريخ الذي أقدمه فيه خلفاء الإسكندر على اتخاذ هذه الخطوة التي أكدوا بها استقلال كل منهم بولايته وانحلال الإمبراطورية فلا خلاف حول اتخاذ الخطوة نفسها.
فشل أنتيجونوس في غزو مصر:
بعد هذا النصر المبين، اعتقد أنتيجونوس أنه كان في وسعه التخلص من بطلميوس، ولذلك فإنه في خريف عام 306 أعد هو ودمتريوس جيشاً وأسطولاً قويين لمحاولة ما فشل فيه يرديقاس من قبل. فقد كانت قواتهما تتألف من 80.000 جندي من المشاة و8000 من الفرسان و82 فيلا تحت قيادة أنتيجونوس، وأسطول يتكون من 150 سفينة حربية و100 سفينة للنقل على رأسها دمتريوس. وزودت هذه الحملة الهائلة بكميات كبيرة من الحبوب وغذاء الدواب. ولقد كان مجهودًا جباراً لكنه تحطم أمام دفاع بطلميوس عن دولته.
حصار رودس، بطلميوس "الإله المنقذ":
وعندما فشل أنتيجونوس في الاستيلاء على مصر، بدت له فكرة تضييق الخناق عليها من ناحية البحر بالاستيلاء على جزيرة رودس، مع أنها لم تكن من ممتلكات بطلميوس، بل كانت صديقة أنتيجونوس في عام 315 وساعدته في بناء أسطوله غير أنه كانت لها علاقات وثيقة مع مصر منذ أن أحرز بطلميوس سيادته البحرية، ورفضت الانحياز إلى جانب أنتيجونوس ضده في أثناء حملة قبرص. وفضلاً عن ذلك فإنها كانت أهم عميل تجاري لمصر في البحر المتوسط. وإزاء ذلك كله كان أنتيجرنوس يخشى أن تقوم رودس بمساعدة بطلميوس في إعادة بناء أسطوله. وتبعًا لذلك أنقذ دمتريوس إلى رودس في ربيع عام 305 على رأس قوة بحرية كبيرة، لكن رودس قاومت الغزو بشجاعة فائقة، فحاصرها دمتريوس دون جدوى نجوا من خمسة عشر شهرًا وكان هذا الحصار سبب لقب "محاصر المدن" الذي خلع عليه. وأخيراً بفضل وساطة الأيتوليين عقد الصلح بين الطرفين في صيف عام 304 وقيلت رودس محالفة أنتيجونوس، وإنما بشرط ألا تعادي بطلميوس. ولما كان بطلميوس قد فقد أسطوله منذ هزيمته عند قبرص، فإنه لم يكن في وسعه نجدة رودس، لكنه أمدها ببعض الجنود المرتزقة وكميات كبيرة من المؤنة فحفظت لبطلميوس هذا الجميل. ويحدثنا ديودوروس بأنه بعد فشل دمتريوس في حصار رودس، أرسل مواطنوها إلى واحة سيوة سيتلهمون وحي آمون إذا كان ينصحهم بإظهار إجلالهم نحو بطلميوس برفعه إلى مصاف الآلهة، وعندما أتاهم الرد بالإيجاب أقاموا له هيكلاً أطلقوا عليه اسم بطولمايون (Ptolemaeon). ويذكر باوسانياس أن رودس عبدت عندئذ بطلميوس وخلعت عليه لقب "الإله المنقذ" وهو اللقب الذي عرف به في التاريخ.
ويرجع قبول أنتيجونوس الاتفاق مع رودس إلى أن قوة قاساندروس كانت آخذة في الازدياد في بلاد الإغريق حتى أوشك أن يستعيد أكثرها، ولذلك صدرت الأوامر إلى دمتريوس بالإبحار إلى البلاد الإغريق حيث أحرز انتصارات حاسمة. ذلك أنه أنقذ أثينا، وكانت مشتبكة في حرب مع قاساندروس منذ أربعة أعوام (307-304) وأعاد فتح بلاد الإغريق الوسطى، وحرر البلوبونيز، وأعاد إنشاء عصبة قورنثة فاختارته قائدًا لها مكان الإسكندر الأكبر (عام 303). وإحياء هذه العصبة خير دليل على عزوف أنتيجونوس عن سياسة إخضاع الإغريق، وهي السياسة التي كان ينتهجها أنتيباتروس وقاساندروس، وعلى ميله إلى سياسة فيليب الثاني والإسكندر الأكبر وهي سياسة المحالفة على قدم المساواة مع الدول المتحدة الإغريقية.
المحالفة الثانية ضد أنتيجونوس:
ولقد تحرج عندئذ مركز قاساندروس، إزاء ضياع أكثر بلاد الإغريق من قبضته بعد ضياع أبيروس، فحاول التفاهم مع أنتيجونوس، لكن هذا طلب منه التسليم دون قيد أو شرط. فلم يكن من قاسندروس إلا أنه اتصل بلوسيماخوس واتفقا على إعداد حملة قوية، وعلى التماس العون من بطلميوس وسلوقس.
ولما كان القضاء على قاساندروس ينذر الجميع بأشد المخاطر من أنتيجونوس، فإن هؤلاء الملوك الأربعة جددوا في عام 302 محالفة عام 315، إلا أنها لم ترم هذه المرة إلى كبح جماح أطماع أنيتجونوس فحسب بل إلى القضاء عليه. وقد اتفق الحلفاء على أن يعبر لوسيماخوس الدردنيل ويغزو آسيا. وأن يزحف سلوقس غربًا لينضم إليه. وفي خلال ذلك كان يتعين على بطلميوس أن يحتل سوريا، وعلى قاساندروس أن يلاقى دمتريوس الذي غزا تساليًا في ربيع عام 302. وقد كان الحلفاء يتوقعون أن خطتهم، التي رسموها للحرب في آسيا، ستؤدي إلى استدعاء دمتريوس من بلاد الإغريق. وفعلاً تحقق ذلك، إذ استدعى أنتيجونوس ابنه عندما رأى أن لوسيماخوس عبر الدردنيل وأن سلوقس بدأ زحفه غربًا، لكنه لم يكن لاستدعاء دمتريوس فائدة لأن لوسيماخوس استطاع بسلسلة من المناورات الماهرة أن ينضم إلى سلوقس. وعند أبسوس (Ipsos) في فروجيا قضى في "معركة الملوك" على الجيش الهائل الذي كان يقوده أنتيجونوس ودمتريوس. ويعزى سبب هذه الهزيمة المنكرة إلى حمية دمتريوس، الذي حالفه النصر في بداية الأمر، فأسرف في مطاردة فرسان سلوقس بينما اقتحمت فيلة العدو فيالق أنتيجونوس وضيقت الخناق عليها قوات سلوقس ولو سيماخوس فتبدد شملها وخر أنتيجونوس صريمًا وهو يردد هذه الصيحة المؤثرة: "سيأتي دمتريوس لانقاذي". لكن دمتريوس لم يأت إلا بعد فوات الأوان، وإذا أدرك عبث المقاومة ولي مديرًا إلى أفسوس مع فريق من مشاته وفرسانه. وبالقضاء على أنتيجونوس في الثمانين من عمره (عام 301)، قضى على أكبر محاولة أكبر محاولة لإحياء إمبراطورية الإسكندر الأكبر ثانية.
بداية المشكلة السورية:
وما الدور الذي قام به بطلميوس في هذا الصراع؟ لقد اكتفى بطلميوس بغزو سوريا في ربيع عام 301 عندما برحها أنتيجونوس ليعبر جبال الطوروس ويلاقي لوسيماخوس، ثم بادر بإخلاء سوريا عندما أتاه نبأ كاذب فحواه أن لوسيماخوس قد هزم وأن أنتيجونوس في طريقه صوب سوريا. ولا يمكن تفسير هذا الدور غير المشرف الذي قام به بطلميوس إلا بأنانيته، إذ يبدو أنه اتبع مع حلفائه في هذا الصراع ضد بولوبرخون ويمنيس، فقد كان صالحه دائمًا في أن يستنفد الآخرون قواهم في محاربة بعضهم بعضاً، بينما يحتفظ هو بقواه سليمة ليستطيع تنفيذ سياسته. لكن بطلميوس تخطى نطاق الحكمة هذه المرة، إذ أنه أغضب حلفاءه بانسحابه من سوريا، فقرروا أنه لم يقم نحوهم بخدمة يستحق عليها نصيبًا من الأسلاب، ولذلك أبوا عليه جوف سوريا الذي كان قد وعد به من قبل؛ بينما اقتسم معظم الأسلاب سلوقس ولوسيماخوس، اللذان اضطلعا بالعبء الأكبر في الحرب. فقد فاز أولهما بكل سوريا وآسيا الصبري ح تى منتصف فورجيا الكبرى، وثانيهما بغرب آسيا الصغرى حتى منتصف فورجيا. ولم يحصل قاساندروس لنفسه على أية ممتلكات أسيوية، لكن أخاه بلايستارخوس (Pleistarchos) نال الأقاليم الممتدة على ساحل آسيا الصغرى الجنوبي من قيليقيا حتى قاربًا.
وإذا كانت سياسة الانكماش في الحرب قد ساعدت بطلميوس أكثر من مرة في الاحتفاظ بقوته فإنها عادت عليه هذه المرة بالوبال، فقد أصبحت ملكية جوف سوريا موضع خلاف دائم بين البطالمة والسلوقيين، مما أفضى إلى سلسلة طويلة من الحروب كان لها أسوأ الأثر في كيان دولة البطالمة. ولذلك نرى أنه ليس من التعسف في الرأي القول بأن بطلميوس الذي وضع دعائم مملكة البطالمة في مصر قد أوردت خلفاءه فيما أورثهم أحد المعاول التي فوضت تلك الدعائم. وهكذا نرى ملوك العصر الهيليسي يحيون من جديد المنافسة القديمة بين فراعنة مصر والأباطرة الآسيويين من أجل هذه المنطقة.
يسري حماده- عضو متميز
-
عدد الرسائل : 287
العمر : 55
العمل/الترفيه : الرياضيات
المزاج : الحمد لله
نقاط : -1
تاريخ التسجيل : 06/10/2008
رد: بطليموس الاول
الأوضاع بعد موقعة أبسوس:
ويعتبر عام 301 بداية عهد جديد، فقد انحلت إمبراطورية الإسكندر بحيث أنه لم يعد هناك أي أمل يرجى في أحيائها ثانية، وأصبح يقتسم عالم بحر إيجة عندئذ خمس شخصيات عظيمة هي: قاساندروس في مقدونيا وبعض بلاد الإغريق، ولوسيماخوس في ترقيا وآسيا الصغرى، وسلوقس في بابل وسوريا وآسيا الصغرى، وبطلميوس في مصر وجوف سوريا وقرينايئة. وإذا كان أنتيجونوس قد مات، فإن ابنه دمتريوس "محاصر المدن" كان لا يزال حيًا وتجيش في صدره آمال إعادة تكوين إمبراطورية أبيه وظل قوة يخشى بأسها. ذلك أنه كان لا يزال يملك أقوى أسطول في بحر أيجة، ويتمتع برياسة عصبة قورنثة، وبسيادة عصبة جزر القوقلاد، ويسيطر على قبرص ومدن إغريقية كثيرة في بلاد الإغريق وآسيا الصغرى وفينيقيا.
وإذا كان حلفاء بطلميوس قد أبوا عليه جوف سوريا، فإنه كان قد أعاد ا حتلال ذلك الإقليم حتى نهر اليوثروس (Eleutherus) في أثناء اشتباك حلفائه مع عدوهم المشترك، ورفض بعد ذلك النزول عنه. وكان هذا ينطوي على خطر الاشتباك مع سلوقس الذي جاء بعد التقسيم ليضع يده على ما آل إليه، لكنه مراعاة لصديقه بطلميوس اكتفى عندئذ بالمطالبة بحقه إلى أن يرى سبيله إلى معاملة الأصدقاء الجشعين.
وإزاء ذلك كان طبيعياً أن يأخذ كل منهما في البحث عن حلفاء له، فتوى بطلميوس يتقرب إلى قاساندروس ولوسيساخوس بالمصاهرة، إذ أن الإسكندر بن قاساندروس تزوج من لوساندرا (Lysandra) ابنة (Amastris) ليتزوج من أرسينوي ابنة بطلميوس من يرنيقي، وكانت لا تزال قناة صغيرة جدًا، وأما سلوقس فإن تناسى مؤقتًا عداءه القديم لدمتريوس، ليفيد من إمكانياته وبخاصة قوته البحرية، وخطب ابنته استراتونيقي (Stratonice) (عام 300).
نشاط دمتريوس:
وعندما ذهب دمتيوس مع فلول قواته إلى بلاد الإغريق ليستنفرها ضد أعدائه، بادرت أثينا إلى إعلان حيادها وأغلقت دونه أبوابها، وتحرر حلفاؤه من حامياته، ولم تلبث أن تفككت عرى عصبة قورنثة وقد دمتريوس نفوذه في بلاد الإغريق. وإزاء ذلك وجد دمتريوس أن الظروف غي رمواتية لشن حرب ناجحة على قاساندروس. ولما كان لا يزال تحت امرته أسطول كبير ومعاقل كثيرة في قبرص وآسيا الصغرى وفينيقيا، فإنه فضل أن يوجه نشاطه إلى آسيا. فهاجم أولاً لوسيماخوس وحرمه أيونيًا، ثم هاجم بلايستارخوس ـ شقيق قاساندروس ـ وطرده من ممتلكاته، وكانت تشمل أكثر شاطئ آسيا الصغرى الجنوبي. ويبدو أن قاساندروس ترك الأمور تجري في أعنتها، لاعتلال صحته وتقديراً منه أن دمتريوس، وقد شغل بالشئون الآسيوية على هذا النحو، لن يتدخل لمدة طويلة في شئون بلاد الإغريق. وعلى كل حال فإن دمتريوس لم يلبث أن اشتبك في حرب مع بطلميوس استولى فيها على سماريًا (Samaria) ومن المحتمل أيضاً على جنوب سوريا، وذلك فيما يظن بإيعاز من سلوقس الذي لم يجرؤ عندئ على مهاجمة بطلميوس علنًا. بيد أنه عندما خشى سلوقس أن تصبح الحرب عامة، أو لعله عندما ساورته المخاوف من أن يحتفظ دمتريوس بفتحوته، تدخل بني دمتريوس وبطلميوس وأفلح في عقد الصلح بينهما في عام 299/ 298. وبمقتضى هذه المعاهدة أخذ بطلميوس رهينة: الإسكندر زوج ابنة دمتريوس، وبروس زوج أخت دمتريوس وكان قد خلع من عرش أبيروس (في عام 302). وقد توفي الإسكندر في مصر، وأما يوروس فإن ب طلميوس أعاده إلى بلاده ليأثر من قاساندروس بسبب موقفه منه عقب أبسوس. وقد شفع بطلميوس ذلك بمحالفة أجاثوقلس السراقوسي، حتى إذا ما أفلح دمتريوس بوميًا في ارتقاء عرش مقدونيا كان من الممكن استخدام أجاثوقلس ضده إذا اقتضى الأمر.
وفاة فاسندروس وفوز دمتريوس بعرش مقدونيا:
وعندما توفي قاساندروس في عام 297 لاحت لدمتريوس باقرة أمل في الغرب، فلم يتردد في مبارحة آسيا، حيث تزعزع مركزه ونشب الخلاف بينه وبين سلوقس لرفضه إعطاء سلوقس صور وصديا ثمنًا لصداقته. ولذلك يمم دمتريوس وجهه شطر بلاد الإغريق ليستعيد سيطرته عليها ويستولى على مقدونيا ثم يثأر لنفسه من أعدائه.
وقد بدأ بمهاجمة أثينا ألا أنها صدته فانسحب إلى بلوبونيز، حيث استعاد سيطرته هناك ثم عاود مهاجمة أثينا واستولى عليها (294). وبعد ذلك زحف على أسبرطة، لكنه في أثناء هذه الحملة سنحت له فرصة جديدة للاستيلاء على مقدونيا، فلم يضع وقته عند اسبرطة وخف إلى الشمال. وبيان ذلك أن فيليب الرابع ابن قاساندروس لم يعش بعد أبيه إلا أربعة أشهر، وعندئذ تسببت الأهواء في مأساة بشعة. ذلك أنه بتأثير ثسالونيقي، أرملة قاسندروس، تقرر تقسيم المملكة بين ابنها الأكبر أنتيباتروس وابنها الأصغر المقرب إليها اسكندر الخامس. وقد كان طبيعيًا ألا يفضي مثل هذا العمل إلى الاستقرار، إذ أن أنتيباتروس لم يلبث أن قتل أمه وهاجم أخاه الأصغر فساتنجد الأخير ببوروس ودمتريوس. وعندما قدم دمتريوس إلى مقدونيا، وجد أن بوروس قد سبقه إلى دعم مركز الإسكندر، لكن ذلك لم يفت في عضد دمنريوس، فإنه دعا الإسكندر إلى مأدبة في لاريا وأوعز إلى رجاله بقتله وبعد ذلك اختاره الجيش ملكًا (294/293). وهكذا آلت إلى دمتريوس مقدونيا، وكان أبوه يعتبرها ركيزة ضرورية لإعادة فتح أسيا ولم شعث الإمبراطورية المقدونية.
وقد أفزع سلوقس وبطلميوس ولو سيماخوس استيلاء دمتريوس على مقدونيا فجددوا محالفتهم ضده واقتسموا أغلب ممتلكاته الآسيوية: فضم لوسيماخوس شاطئ أسيا الصغرى الغربي، واستولى سلوقس على قيليقيا، وأخذ بطلميوس قبرص وبامفوليا ولوقيا، فلم يبق لدمتريوس في آسيا سوى صور وصيدا في فينيقيا وقاونوس في قاريًا. ولاحت عندئذ لبطلميوس الفرصة لإعادة بناء أسطوله الذي تحطم في موقعة سلاميس.
وعلى الرغم من أن دمتريوس غدا سريعًا مكروهًا من رعاياه، فإنه استطاع أن ينشئ لنفسه قوة كبيرة في بلاد الإغريق، إذ أنه وقد طرح جانبًا فكرة كسب ود الإغريق قضى من عام 293 حتى عام 289 في السيطرة على بلاد الإغريق، فاستولى على تساليا وبلاد الإغريق الوسطى وأصبح سيد كل بلاد الإغريق ما عدا أيتوليا واسبرطة. وفضلاً عن ذلك فإنه كان يسيطر على عصبة الجزر ويحاف قرصان بحر أيجة. ولذلك بدا أنه كان في البر أقوى من أي ملك آخر، وفي البحر صاحب السيادة العيا، إذ يحتمل أنه كان حت أمرته 300 سفينة حربية، في حين أن بطلميوس لم يكن قد نجح بعد في رفع مستوى أسطوله إلى ما كان عليه قبل سلاميس، وكانت أساطيل لوسيماخوس وسلوقس ورودس وهيراقليا وبيزنطة أصغر من ذلك.
دمتريوس يفقد مقدونيا:
وفي خريف عام 289 بدأ دمتريوس اتخاذ العدة لغزو آسيا، فاستشعر سلوقس وبطلميوس ولوسيماخوس استفحال خطره ولذلك قرروا في عام 288 المبادأة بمهاجمته ودعوا بوروس إلى الانضمام إلى محالفتهم. واستقر الرأي على أن يقوم لو سيماخوس وبوروس بغزو مقدونيا وأن يستخدم بطلميوس قوته البحرية في تأليب بلاد الإغريق على دمتريوس. ولذلك فإنه في ربيع 287 غزا لووسيماخوس وبوروس مقدونيا واقتسماها فيما بينهما على أثر هروب دمتريوس إلى بلاد الإغريق، حيث حالفه التوفيق في إنقاذ مملكته الإغريقية على الأقل. وعندما أصبح لوسيماخوس على هذا النحو سيد آسيا الصغرى ونصف مقدونيا، أثارت قوته مخاوف بطلميوس وسلوقس بوجه خاص، لكنها لم يكونا أقل خوفًا من الخطر الذي كان دمتريوس مصدره، إذ أنه على الرغم من اضطراره إلى ترك مقدونيا كان لا يزال يحتكم في ممتلكات إغريقية هامة. وقد أفلح تدخل بطلميوس في دفع آثينا إلى الثورة على دمتريوس وخف بوروس إلى نجدتها فنجت من الوقوع في قبضة دمتريوس.
دمتريوس يغزو آسيا، أسره ووفاته:
وبعد ذلك عقد الصلح بين بوروس ودمتريوس على أساس احتفاظ كل منهما بما كان في قبضته. وفي العام التالي (286) ترك دمتريوس ابنه أنتيجونوس جوناتاس (Gonatas) في بلاد الإغريق وبدأ بنفسه غزو آسيا، فلم يتدخل في ذلك سلوقس ولا بطلميوس، إذ كان لا يسيئها أن يريا دمتريوس يهاجم لوسيماخوس. وفي البداية حالف التوفيق دمتريوس فأغراه ذلك على محاولة الوصول إلى الولايات الشرقية البعيدة فيما وراء أرمينيا، لكن تذمر جنوده ومهارة أجاثوقلس بن لوسيماخوس أرغماه على العدول عن هذا المشروع (عام 286)، فانسحب إلى قيليقيا وناشد مساعدة سلوقس لكنه لم يفز بذلك لعدم اطمئنان الأخير إليه.
وإزاء تكالب الشدائد على دمتريوس شن على سلوقس حربًا يائسة، إلا أنه مرض وتفكك جيشه في أثناء مرضه، مما اضطره إلى التسليم لسلوقس، فألقى القبض عليه وسجنه (عام 285) إلى أن وافته منيته (عام 283).
بطلميوس يسترد سيادة البحر:
وعندما زال خطر دمتريوس، انتهز لوسيماخوس هذه الفرصة وطرد بوروس من مقدونيا ووضعها كلها وكذلك بلاد الإغريق تحت سيطرته (عام 285). وأما في بحر أيجة، فإن خليفة دمتريوس لم يأن لوسيماخوس وإنما بطلميوس. وبيان ذلك أنه في خلال كفاح دمتريوس في آسيا الصغرى في عام 286، حالفت ميلتوس بطلميوس، وبعد دمتريوس انخرط قائده البحري، فيلوقلس (Philocles) ملك صيدا، في خدمة بطلميوس ووضع تحت أمرته الجانب الأكبر من أسطول دمتريوس، بما في ذكل مراكبه الفينيقية، كما أعطاه أيضًا صيدا وصوروقاونوس وهكذا استرد بطلميوس سيادة البحر ومعها سيادة عصبة جزر القوقلا، دون أن يحارب من أجلها. ولم يلبث أن استولى كذلك على جزيرة (Thera) ومن المحتمل أنه أنشأ عندئذ أيضاً قاعدة بحرية في أتانوس على الساحل الشمالي الشرقي بجزيرة كريت.
بطلميوس يشرك معه في الملك ابنه المفضل لديه:
وقد كانت مشكلة وراثة العرش أكبر مشاغل بطلميوس في سن حكمه الأخيرة، فلكي يضمن الملك لابنه المفضل لديه، وهو الذي أنجب له برنيقي في جزيرة قوس، ويحرم ابنه الأكبر من يوروديقي وهو المعروف باسم بطلميوس "الصاعقة" (Keraunos) أشرك معه الأول في الملك في عام 285. وكان يواجه الملك الجديد حالة خارجية متوترة، ذلك أن أخاه بطلميوس الصاعقة التجأ إلى لوسيماخوس ثم إلى سلوقس للحصول على عون يمكنه من الفوز بارثه، أو إذا تعذر ذلك للعمل على في أوروبا بما يعوضه عن خسارة أرثه المصري. فكان من الجائز نشوب حروب تتهدد مصائر مصر، لكن بطلميوس الأول قد أثبت أنه إذا كان من الممكن وقف مصر في اندفاعها إلى الفتح للحصول على سيادة البحر، فقد كان من العسير المساس بمصالح مصر الجوهرية، وأنه لم تحل بمصر هزيمة وعلى عرشها ملك حازم إلا استطاعت أن تتخلص من آثارها.
استعراض سياسة بطلميوس الأول الخارجية:
وإذا استعرضنا ما قام به بطلميوس فإننا نلاحظ (أولاً) أنه بعد فشل ما اقترحه على مؤتمر بابل من بقاء عرش الإمبراطورية شاغراً وقيام قواد الجيش بحكم الأمبراطورية، قام بدور رئيسي في هذا المؤتمر الذي قرر: تقسيم الملك بين أرهيدايوس وجنين روكسانا، وكذلك تقسيم السلطة المركزية بين برديقاس وقراتروس. وما كاد بطلميوس يصل إلى مصر حتى أعدم قليومنيس النقراطيسي، وعمل على نقل جثمان الإسكندر لدفنه في مصر.
ولا ريب في أن ما اقترحه بطلميوس أول الأمر على مؤتمر بابل يدل على تعطش شديد للسلطة، ولا في أن السياسة التي شارك في جعل مؤتمر بابل يتبعها كانت أبسط نتائجها إتاحة قسط كبير من الاستقلال لحكام الولايات. بل إن النتيجة المنطقية لهذه السياسة آخر الأمر كانت فصم عرى الإمبراطورية. وإعدامه قليومنيس ودفنه الإسكندر في مصر يدلان على رغبته في الاستقلال بحكم مصر ويتمشيان مع ما ظهر من خلقه وسلوكه منذ اجتماع بابل.
ويلاحظ (ثانيًا) أنه اشترك في أربع محالفات ضد السلطة المركزية، فقد كانت أولى هذه المحالفات ضد برديقاس الذي قضى عليه في عام 321، لأنه قبض على زمام السلطة العليا في الإمبراطورية المقدونية وأراد إملاء إرادته على حكام الولايات. وقد رفض بطلميوس أن يخلف برديقاس في منصب الوصاية، مع أنه لو كان يطمع في تكوين إمبراطورية عالمية لرحب بهذه الفرصة. وكانت المحالفة الثانية ضد بولوبرخون عندما أقيم وصيًا على الملكين، وأصبح تبعًا لذلك صاحب السلطة المركزية في الإمبراطورية. وكان ضعف مركز هذا الوصي خير حافز لتفويض أركان السلطة المركزية وتحقيق الأطماع الشخصية. وأما المحالفتان الثالثة والرابعة فإنهما كانتا ضد أنتيجونوس "الأعور" وهو الذي ازدادت قوته بحيث أصبح خطرًا يتهدد سلامة الولاة الآخرين، وانتهى الأمر بالقضاء عليه في عام 301، وينهض ذلك كله دليلاً على أن تتابع الأحداث أقنع بطلميوس بأنه لا يستطيع تحقيق ما كان يستهدفه من الاستقلال بمصر والمحافظة على هذا الاستقلال إلا إذا شارك في القضاء على السلطة المركزية في الإمبراطورية وعلى وحدة الإمبراطوية وكافح كل من حدثته نفسه بأحيائها أو ازدادت قوته ازديادًا خطيرًا يتهدد توازن القوى في بحر أيجة. ومع ذلك يلاحظ أنه في أغلب الأحيان كان بطلميوس يتفادى تعريض مصائر مصر تعريضًا خطيرًا. وليس مرد ذلك، كما يزعم بعض مؤرخي الغرب، إلى أنه كان يسيطر على شعب أقل ميلاً للحرب من شعوب مقدونيا وتراقيا وآسيا، فهو لم يعتمد على المصريين في جيشه، وإنما مرد ذلك إلى عاملين آخرين وأحدهما هو أنه كان يعتمد في تكوين جيشه على التجنيد الخارجي وكان يكلفه كثيرًا وتحت رحمة الظروف المختلفة وعرضة للنقص بل للانقطاع كلية. والعامل الآخر هو أن بطلميوس كان يدرك تماماً أن مصر كانت دعامة قوته لأنها كانت المصرد الرئيسي لثروته والمركز الذي يشاد حوله صرح إمبراطورية تكفل له الاستقلال السياسي والاقتصادي، وأن قواته كانت الدرع الواقي لمصر، ومن ثم فإنه كان لا يجوز المخاطرة بتعريض مصر للأخطار بالزج بقواته في حروب لا تمس سلامة مصر أو لا تخدم صوالحها المباشرة.
ويلاحظ (ثالثً) أنه حين كان بطلميوس معنيًا بالفوز باستقلاله والذود عنه قد حاول تحقيق هدفين آخرين: كان أحدهما هو بسط نفوذه على الأقاليم التي تجاور مصر وتعتبر بمثابة ملحقاتها الطبيعية، فإنه ما كاد يصل إلى مصر حتى استولى على قورينايئة لحماية حدود مصر الغربية. وعندما وطد مركزه في مصر بانتصاره على برديقاس، وجه اهتمامه إلى الاستيلاء على جوف سوريا وفينيقيا وقبرص والاحتفاظ بها، وذلك من ناحية لحماية حدود مصر الشرقية والحصول على المعادن والأخشاب التي يفتقر إليها وادي النيل والسيطرة على أهم منافذ طريقي الوسط والجنوب التجارة الشرقية، ومن ناحية أخرى لتأمين سيادة مصر على بحر أيجة. وكان الهدف الآخر هو بسط سلطان محصر ما أمكن في البحر الأبيض المتوسط، بقصد الاستيلاء على الأقاليم التي توفر لمصر ما تحتاج إليه من المواد الضرورية، وبقصد حماية الطرق البحرية التي تصل مصر بدول بحر إيجة. ولذلك كله عنى بطلميوس بالاستيلاء على عصبة جزر بحر أيجة وبعض الأقاليم الواقعة على شواطئ آسيا الصغرى في قيليقيا وبامفوليا ولوقيا وقاريا. وإذا كان قد فقد في أواخر القرن الرابع ممتلكاته في آسيا الصغرى وبعد ذلك سطوته البحرية، فإنه في بداية القرن الثالث استرد سيادته البحرية، وأصبح سيد عصبة جزر القوقلاد وثيراً وشاطئ فينيقيا وقاونوس فضلاً عن جوف سوريا وقورينايئة، وأضحت تحت امرته إذ ذاك أكبر قوة بحرية في العالم الهلينيسي.
لقد كانت أعز أماني البطالمة الثلاثة الأوائل هي المحافظة على استقلال مصر التام، وضمان ثرائها بتصريف الفائض من منتجاتها والحصول على المواد التي تفتقر إليها. وقد اعتبروا الوسيلة المثلى لتحقيق ذلك إحراز سيادة بحر أيجة. ويجب أن يلاحظ أن السيطرة على عصبة جزر بحر أيجة كانت لا تكسب البطالمة إلا سيطرة جزئية اقتصادية وسياسية على بحر أيجة، وأن استكمال السيطرة على هذا البحر كان يقضي بفرض حماية مصر على شواطئ آسيا الصغرى الجنوبية والغربية، ونشر نفوذها على الدردنيل وبحر مرمرة وشواطئ البحر الأسود الجنوبية. وقد كانت سلامة هذه الإمبراطورية الأيجية تتطلب كذلك الإستيلاء على موانئ فلسطين وفينيقيا. وقد شيد بطلميوس الأول جانبًا مهماً من هذه الإمبراطورية، وترك لابنه وحفيده استكمال هذا البناء الشامخ.
وقد جعل واجب بطلميوس الأول عسيراً ظروفه ومقدرة خصومه، ولا شك في أنه لم يمل إلى تجاهل هذه المقدرة بل إنه كان يخشاها. وإذا كان يفضل مواهبه قد تمكن من تشييد صرح منيف، فإنه يحذره وأنانيته وشدة حرصه قد أورث خلفاءه المشكلة السورية العانية التي كان لها أثر بعيد المدى في مستقبل دولته. ومع ذلك فإن هذه الدولة صدت أمام ظروف الزمن مدة طويلة، في حين أن عاصفة واحدة كانت كافية للقضاء على دول الآخرين الذين فأتوه في جلال مظهرهم. وما نعرفه عنه يعطينا في جميلته بواعث كافية لتقديره والإنفاق مع أقوال المؤرخين القدماء، الذين يضعونه في الصف الأول بين رجال ذلك الجيل المدهش من خلفاء الإسكندر.
ويعتبر عام 301 بداية عهد جديد، فقد انحلت إمبراطورية الإسكندر بحيث أنه لم يعد هناك أي أمل يرجى في أحيائها ثانية، وأصبح يقتسم عالم بحر إيجة عندئذ خمس شخصيات عظيمة هي: قاساندروس في مقدونيا وبعض بلاد الإغريق، ولوسيماخوس في ترقيا وآسيا الصغرى، وسلوقس في بابل وسوريا وآسيا الصغرى، وبطلميوس في مصر وجوف سوريا وقرينايئة. وإذا كان أنتيجونوس قد مات، فإن ابنه دمتريوس "محاصر المدن" كان لا يزال حيًا وتجيش في صدره آمال إعادة تكوين إمبراطورية أبيه وظل قوة يخشى بأسها. ذلك أنه كان لا يزال يملك أقوى أسطول في بحر أيجة، ويتمتع برياسة عصبة قورنثة، وبسيادة عصبة جزر القوقلاد، ويسيطر على قبرص ومدن إغريقية كثيرة في بلاد الإغريق وآسيا الصغرى وفينيقيا.
وإذا كان حلفاء بطلميوس قد أبوا عليه جوف سوريا، فإنه كان قد أعاد ا حتلال ذلك الإقليم حتى نهر اليوثروس (Eleutherus) في أثناء اشتباك حلفائه مع عدوهم المشترك، ورفض بعد ذلك النزول عنه. وكان هذا ينطوي على خطر الاشتباك مع سلوقس الذي جاء بعد التقسيم ليضع يده على ما آل إليه، لكنه مراعاة لصديقه بطلميوس اكتفى عندئذ بالمطالبة بحقه إلى أن يرى سبيله إلى معاملة الأصدقاء الجشعين.
وإزاء ذلك كان طبيعياً أن يأخذ كل منهما في البحث عن حلفاء له، فتوى بطلميوس يتقرب إلى قاساندروس ولوسيساخوس بالمصاهرة، إذ أن الإسكندر بن قاساندروس تزوج من لوساندرا (Lysandra) ابنة (Amastris) ليتزوج من أرسينوي ابنة بطلميوس من يرنيقي، وكانت لا تزال قناة صغيرة جدًا، وأما سلوقس فإن تناسى مؤقتًا عداءه القديم لدمتريوس، ليفيد من إمكانياته وبخاصة قوته البحرية، وخطب ابنته استراتونيقي (Stratonice) (عام 300).
نشاط دمتريوس:
وعندما ذهب دمتيوس مع فلول قواته إلى بلاد الإغريق ليستنفرها ضد أعدائه، بادرت أثينا إلى إعلان حيادها وأغلقت دونه أبوابها، وتحرر حلفاؤه من حامياته، ولم تلبث أن تفككت عرى عصبة قورنثة وقد دمتريوس نفوذه في بلاد الإغريق. وإزاء ذلك وجد دمتريوس أن الظروف غي رمواتية لشن حرب ناجحة على قاساندروس. ولما كان لا يزال تحت امرته أسطول كبير ومعاقل كثيرة في قبرص وآسيا الصغرى وفينيقيا، فإنه فضل أن يوجه نشاطه إلى آسيا. فهاجم أولاً لوسيماخوس وحرمه أيونيًا، ثم هاجم بلايستارخوس ـ شقيق قاساندروس ـ وطرده من ممتلكاته، وكانت تشمل أكثر شاطئ آسيا الصغرى الجنوبي. ويبدو أن قاساندروس ترك الأمور تجري في أعنتها، لاعتلال صحته وتقديراً منه أن دمتريوس، وقد شغل بالشئون الآسيوية على هذا النحو، لن يتدخل لمدة طويلة في شئون بلاد الإغريق. وعلى كل حال فإن دمتريوس لم يلبث أن اشتبك في حرب مع بطلميوس استولى فيها على سماريًا (Samaria) ومن المحتمل أيضاً على جنوب سوريا، وذلك فيما يظن بإيعاز من سلوقس الذي لم يجرؤ عندئ على مهاجمة بطلميوس علنًا. بيد أنه عندما خشى سلوقس أن تصبح الحرب عامة، أو لعله عندما ساورته المخاوف من أن يحتفظ دمتريوس بفتحوته، تدخل بني دمتريوس وبطلميوس وأفلح في عقد الصلح بينهما في عام 299/ 298. وبمقتضى هذه المعاهدة أخذ بطلميوس رهينة: الإسكندر زوج ابنة دمتريوس، وبروس زوج أخت دمتريوس وكان قد خلع من عرش أبيروس (في عام 302). وقد توفي الإسكندر في مصر، وأما يوروس فإن ب طلميوس أعاده إلى بلاده ليأثر من قاساندروس بسبب موقفه منه عقب أبسوس. وقد شفع بطلميوس ذلك بمحالفة أجاثوقلس السراقوسي، حتى إذا ما أفلح دمتريوس بوميًا في ارتقاء عرش مقدونيا كان من الممكن استخدام أجاثوقلس ضده إذا اقتضى الأمر.
وفاة فاسندروس وفوز دمتريوس بعرش مقدونيا:
وعندما توفي قاساندروس في عام 297 لاحت لدمتريوس باقرة أمل في الغرب، فلم يتردد في مبارحة آسيا، حيث تزعزع مركزه ونشب الخلاف بينه وبين سلوقس لرفضه إعطاء سلوقس صور وصديا ثمنًا لصداقته. ولذلك يمم دمتريوس وجهه شطر بلاد الإغريق ليستعيد سيطرته عليها ويستولى على مقدونيا ثم يثأر لنفسه من أعدائه.
وقد بدأ بمهاجمة أثينا ألا أنها صدته فانسحب إلى بلوبونيز، حيث استعاد سيطرته هناك ثم عاود مهاجمة أثينا واستولى عليها (294). وبعد ذلك زحف على أسبرطة، لكنه في أثناء هذه الحملة سنحت له فرصة جديدة للاستيلاء على مقدونيا، فلم يضع وقته عند اسبرطة وخف إلى الشمال. وبيان ذلك أن فيليب الرابع ابن قاساندروس لم يعش بعد أبيه إلا أربعة أشهر، وعندئذ تسببت الأهواء في مأساة بشعة. ذلك أنه بتأثير ثسالونيقي، أرملة قاسندروس، تقرر تقسيم المملكة بين ابنها الأكبر أنتيباتروس وابنها الأصغر المقرب إليها اسكندر الخامس. وقد كان طبيعيًا ألا يفضي مثل هذا العمل إلى الاستقرار، إذ أن أنتيباتروس لم يلبث أن قتل أمه وهاجم أخاه الأصغر فساتنجد الأخير ببوروس ودمتريوس. وعندما قدم دمتريوس إلى مقدونيا، وجد أن بوروس قد سبقه إلى دعم مركز الإسكندر، لكن ذلك لم يفت في عضد دمنريوس، فإنه دعا الإسكندر إلى مأدبة في لاريا وأوعز إلى رجاله بقتله وبعد ذلك اختاره الجيش ملكًا (294/293). وهكذا آلت إلى دمتريوس مقدونيا، وكان أبوه يعتبرها ركيزة ضرورية لإعادة فتح أسيا ولم شعث الإمبراطورية المقدونية.
وقد أفزع سلوقس وبطلميوس ولو سيماخوس استيلاء دمتريوس على مقدونيا فجددوا محالفتهم ضده واقتسموا أغلب ممتلكاته الآسيوية: فضم لوسيماخوس شاطئ أسيا الصغرى الغربي، واستولى سلوقس على قيليقيا، وأخذ بطلميوس قبرص وبامفوليا ولوقيا، فلم يبق لدمتريوس في آسيا سوى صور وصيدا في فينيقيا وقاونوس في قاريًا. ولاحت عندئذ لبطلميوس الفرصة لإعادة بناء أسطوله الذي تحطم في موقعة سلاميس.
وعلى الرغم من أن دمتريوس غدا سريعًا مكروهًا من رعاياه، فإنه استطاع أن ينشئ لنفسه قوة كبيرة في بلاد الإغريق، إذ أنه وقد طرح جانبًا فكرة كسب ود الإغريق قضى من عام 293 حتى عام 289 في السيطرة على بلاد الإغريق، فاستولى على تساليا وبلاد الإغريق الوسطى وأصبح سيد كل بلاد الإغريق ما عدا أيتوليا واسبرطة. وفضلاً عن ذلك فإنه كان يسيطر على عصبة الجزر ويحاف قرصان بحر أيجة. ولذلك بدا أنه كان في البر أقوى من أي ملك آخر، وفي البحر صاحب السيادة العيا، إذ يحتمل أنه كان حت أمرته 300 سفينة حربية، في حين أن بطلميوس لم يكن قد نجح بعد في رفع مستوى أسطوله إلى ما كان عليه قبل سلاميس، وكانت أساطيل لوسيماخوس وسلوقس ورودس وهيراقليا وبيزنطة أصغر من ذلك.
دمتريوس يفقد مقدونيا:
وفي خريف عام 289 بدأ دمتريوس اتخاذ العدة لغزو آسيا، فاستشعر سلوقس وبطلميوس ولوسيماخوس استفحال خطره ولذلك قرروا في عام 288 المبادأة بمهاجمته ودعوا بوروس إلى الانضمام إلى محالفتهم. واستقر الرأي على أن يقوم لو سيماخوس وبوروس بغزو مقدونيا وأن يستخدم بطلميوس قوته البحرية في تأليب بلاد الإغريق على دمتريوس. ولذلك فإنه في ربيع 287 غزا لووسيماخوس وبوروس مقدونيا واقتسماها فيما بينهما على أثر هروب دمتريوس إلى بلاد الإغريق، حيث حالفه التوفيق في إنقاذ مملكته الإغريقية على الأقل. وعندما أصبح لوسيماخوس على هذا النحو سيد آسيا الصغرى ونصف مقدونيا، أثارت قوته مخاوف بطلميوس وسلوقس بوجه خاص، لكنها لم يكونا أقل خوفًا من الخطر الذي كان دمتريوس مصدره، إذ أنه على الرغم من اضطراره إلى ترك مقدونيا كان لا يزال يحتكم في ممتلكات إغريقية هامة. وقد أفلح تدخل بطلميوس في دفع آثينا إلى الثورة على دمتريوس وخف بوروس إلى نجدتها فنجت من الوقوع في قبضة دمتريوس.
دمتريوس يغزو آسيا، أسره ووفاته:
وبعد ذلك عقد الصلح بين بوروس ودمتريوس على أساس احتفاظ كل منهما بما كان في قبضته. وفي العام التالي (286) ترك دمتريوس ابنه أنتيجونوس جوناتاس (Gonatas) في بلاد الإغريق وبدأ بنفسه غزو آسيا، فلم يتدخل في ذلك سلوقس ولا بطلميوس، إذ كان لا يسيئها أن يريا دمتريوس يهاجم لوسيماخوس. وفي البداية حالف التوفيق دمتريوس فأغراه ذلك على محاولة الوصول إلى الولايات الشرقية البعيدة فيما وراء أرمينيا، لكن تذمر جنوده ومهارة أجاثوقلس بن لوسيماخوس أرغماه على العدول عن هذا المشروع (عام 286)، فانسحب إلى قيليقيا وناشد مساعدة سلوقس لكنه لم يفز بذلك لعدم اطمئنان الأخير إليه.
وإزاء تكالب الشدائد على دمتريوس شن على سلوقس حربًا يائسة، إلا أنه مرض وتفكك جيشه في أثناء مرضه، مما اضطره إلى التسليم لسلوقس، فألقى القبض عليه وسجنه (عام 285) إلى أن وافته منيته (عام 283).
بطلميوس يسترد سيادة البحر:
وعندما زال خطر دمتريوس، انتهز لوسيماخوس هذه الفرصة وطرد بوروس من مقدونيا ووضعها كلها وكذلك بلاد الإغريق تحت سيطرته (عام 285). وأما في بحر أيجة، فإن خليفة دمتريوس لم يأن لوسيماخوس وإنما بطلميوس. وبيان ذلك أنه في خلال كفاح دمتريوس في آسيا الصغرى في عام 286، حالفت ميلتوس بطلميوس، وبعد دمتريوس انخرط قائده البحري، فيلوقلس (Philocles) ملك صيدا، في خدمة بطلميوس ووضع تحت أمرته الجانب الأكبر من أسطول دمتريوس، بما في ذكل مراكبه الفينيقية، كما أعطاه أيضًا صيدا وصوروقاونوس وهكذا استرد بطلميوس سيادة البحر ومعها سيادة عصبة جزر القوقلا، دون أن يحارب من أجلها. ولم يلبث أن استولى كذلك على جزيرة (Thera) ومن المحتمل أنه أنشأ عندئذ أيضاً قاعدة بحرية في أتانوس على الساحل الشمالي الشرقي بجزيرة كريت.
بطلميوس يشرك معه في الملك ابنه المفضل لديه:
وقد كانت مشكلة وراثة العرش أكبر مشاغل بطلميوس في سن حكمه الأخيرة، فلكي يضمن الملك لابنه المفضل لديه، وهو الذي أنجب له برنيقي في جزيرة قوس، ويحرم ابنه الأكبر من يوروديقي وهو المعروف باسم بطلميوس "الصاعقة" (Keraunos) أشرك معه الأول في الملك في عام 285. وكان يواجه الملك الجديد حالة خارجية متوترة، ذلك أن أخاه بطلميوس الصاعقة التجأ إلى لوسيماخوس ثم إلى سلوقس للحصول على عون يمكنه من الفوز بارثه، أو إذا تعذر ذلك للعمل على في أوروبا بما يعوضه عن خسارة أرثه المصري. فكان من الجائز نشوب حروب تتهدد مصائر مصر، لكن بطلميوس الأول قد أثبت أنه إذا كان من الممكن وقف مصر في اندفاعها إلى الفتح للحصول على سيادة البحر، فقد كان من العسير المساس بمصالح مصر الجوهرية، وأنه لم تحل بمصر هزيمة وعلى عرشها ملك حازم إلا استطاعت أن تتخلص من آثارها.
استعراض سياسة بطلميوس الأول الخارجية:
وإذا استعرضنا ما قام به بطلميوس فإننا نلاحظ (أولاً) أنه بعد فشل ما اقترحه على مؤتمر بابل من بقاء عرش الإمبراطورية شاغراً وقيام قواد الجيش بحكم الأمبراطورية، قام بدور رئيسي في هذا المؤتمر الذي قرر: تقسيم الملك بين أرهيدايوس وجنين روكسانا، وكذلك تقسيم السلطة المركزية بين برديقاس وقراتروس. وما كاد بطلميوس يصل إلى مصر حتى أعدم قليومنيس النقراطيسي، وعمل على نقل جثمان الإسكندر لدفنه في مصر.
ولا ريب في أن ما اقترحه بطلميوس أول الأمر على مؤتمر بابل يدل على تعطش شديد للسلطة، ولا في أن السياسة التي شارك في جعل مؤتمر بابل يتبعها كانت أبسط نتائجها إتاحة قسط كبير من الاستقلال لحكام الولايات. بل إن النتيجة المنطقية لهذه السياسة آخر الأمر كانت فصم عرى الإمبراطورية. وإعدامه قليومنيس ودفنه الإسكندر في مصر يدلان على رغبته في الاستقلال بحكم مصر ويتمشيان مع ما ظهر من خلقه وسلوكه منذ اجتماع بابل.
ويلاحظ (ثانيًا) أنه اشترك في أربع محالفات ضد السلطة المركزية، فقد كانت أولى هذه المحالفات ضد برديقاس الذي قضى عليه في عام 321، لأنه قبض على زمام السلطة العليا في الإمبراطورية المقدونية وأراد إملاء إرادته على حكام الولايات. وقد رفض بطلميوس أن يخلف برديقاس في منصب الوصاية، مع أنه لو كان يطمع في تكوين إمبراطورية عالمية لرحب بهذه الفرصة. وكانت المحالفة الثانية ضد بولوبرخون عندما أقيم وصيًا على الملكين، وأصبح تبعًا لذلك صاحب السلطة المركزية في الإمبراطورية. وكان ضعف مركز هذا الوصي خير حافز لتفويض أركان السلطة المركزية وتحقيق الأطماع الشخصية. وأما المحالفتان الثالثة والرابعة فإنهما كانتا ضد أنتيجونوس "الأعور" وهو الذي ازدادت قوته بحيث أصبح خطرًا يتهدد سلامة الولاة الآخرين، وانتهى الأمر بالقضاء عليه في عام 301، وينهض ذلك كله دليلاً على أن تتابع الأحداث أقنع بطلميوس بأنه لا يستطيع تحقيق ما كان يستهدفه من الاستقلال بمصر والمحافظة على هذا الاستقلال إلا إذا شارك في القضاء على السلطة المركزية في الإمبراطورية وعلى وحدة الإمبراطوية وكافح كل من حدثته نفسه بأحيائها أو ازدادت قوته ازديادًا خطيرًا يتهدد توازن القوى في بحر أيجة. ومع ذلك يلاحظ أنه في أغلب الأحيان كان بطلميوس يتفادى تعريض مصائر مصر تعريضًا خطيرًا. وليس مرد ذلك، كما يزعم بعض مؤرخي الغرب، إلى أنه كان يسيطر على شعب أقل ميلاً للحرب من شعوب مقدونيا وتراقيا وآسيا، فهو لم يعتمد على المصريين في جيشه، وإنما مرد ذلك إلى عاملين آخرين وأحدهما هو أنه كان يعتمد في تكوين جيشه على التجنيد الخارجي وكان يكلفه كثيرًا وتحت رحمة الظروف المختلفة وعرضة للنقص بل للانقطاع كلية. والعامل الآخر هو أن بطلميوس كان يدرك تماماً أن مصر كانت دعامة قوته لأنها كانت المصرد الرئيسي لثروته والمركز الذي يشاد حوله صرح إمبراطورية تكفل له الاستقلال السياسي والاقتصادي، وأن قواته كانت الدرع الواقي لمصر، ومن ثم فإنه كان لا يجوز المخاطرة بتعريض مصر للأخطار بالزج بقواته في حروب لا تمس سلامة مصر أو لا تخدم صوالحها المباشرة.
ويلاحظ (ثالثً) أنه حين كان بطلميوس معنيًا بالفوز باستقلاله والذود عنه قد حاول تحقيق هدفين آخرين: كان أحدهما هو بسط نفوذه على الأقاليم التي تجاور مصر وتعتبر بمثابة ملحقاتها الطبيعية، فإنه ما كاد يصل إلى مصر حتى استولى على قورينايئة لحماية حدود مصر الغربية. وعندما وطد مركزه في مصر بانتصاره على برديقاس، وجه اهتمامه إلى الاستيلاء على جوف سوريا وفينيقيا وقبرص والاحتفاظ بها، وذلك من ناحية لحماية حدود مصر الشرقية والحصول على المعادن والأخشاب التي يفتقر إليها وادي النيل والسيطرة على أهم منافذ طريقي الوسط والجنوب التجارة الشرقية، ومن ناحية أخرى لتأمين سيادة مصر على بحر أيجة. وكان الهدف الآخر هو بسط سلطان محصر ما أمكن في البحر الأبيض المتوسط، بقصد الاستيلاء على الأقاليم التي توفر لمصر ما تحتاج إليه من المواد الضرورية، وبقصد حماية الطرق البحرية التي تصل مصر بدول بحر إيجة. ولذلك كله عنى بطلميوس بالاستيلاء على عصبة جزر بحر أيجة وبعض الأقاليم الواقعة على شواطئ آسيا الصغرى في قيليقيا وبامفوليا ولوقيا وقاريا. وإذا كان قد فقد في أواخر القرن الرابع ممتلكاته في آسيا الصغرى وبعد ذلك سطوته البحرية، فإنه في بداية القرن الثالث استرد سيادته البحرية، وأصبح سيد عصبة جزر القوقلاد وثيراً وشاطئ فينيقيا وقاونوس فضلاً عن جوف سوريا وقورينايئة، وأضحت تحت امرته إذ ذاك أكبر قوة بحرية في العالم الهلينيسي.
لقد كانت أعز أماني البطالمة الثلاثة الأوائل هي المحافظة على استقلال مصر التام، وضمان ثرائها بتصريف الفائض من منتجاتها والحصول على المواد التي تفتقر إليها. وقد اعتبروا الوسيلة المثلى لتحقيق ذلك إحراز سيادة بحر أيجة. ويجب أن يلاحظ أن السيطرة على عصبة جزر بحر أيجة كانت لا تكسب البطالمة إلا سيطرة جزئية اقتصادية وسياسية على بحر أيجة، وأن استكمال السيطرة على هذا البحر كان يقضي بفرض حماية مصر على شواطئ آسيا الصغرى الجنوبية والغربية، ونشر نفوذها على الدردنيل وبحر مرمرة وشواطئ البحر الأسود الجنوبية. وقد كانت سلامة هذه الإمبراطورية الأيجية تتطلب كذلك الإستيلاء على موانئ فلسطين وفينيقيا. وقد شيد بطلميوس الأول جانبًا مهماً من هذه الإمبراطورية، وترك لابنه وحفيده استكمال هذا البناء الشامخ.
وقد جعل واجب بطلميوس الأول عسيراً ظروفه ومقدرة خصومه، ولا شك في أنه لم يمل إلى تجاهل هذه المقدرة بل إنه كان يخشاها. وإذا كان يفضل مواهبه قد تمكن من تشييد صرح منيف، فإنه يحذره وأنانيته وشدة حرصه قد أورث خلفاءه المشكلة السورية العانية التي كان لها أثر بعيد المدى في مستقبل دولته. ومع ذلك فإن هذه الدولة صدت أمام ظروف الزمن مدة طويلة، في حين أن عاصفة واحدة كانت كافية للقضاء على دول الآخرين الذين فأتوه في جلال مظهرهم. وما نعرفه عنه يعطينا في جميلته بواعث كافية لتقديره والإنفاق مع أقوال المؤرخين القدماء، الذين يضعونه في الصف الأول بين رجال ذلك الجيل المدهش من خلفاء الإسكندر.
يسري حماده- عضو متميز
-
عدد الرسائل : 287
العمر : 55
العمل/الترفيه : الرياضيات
المزاج : الحمد لله
نقاط : -1
تاريخ التسجيل : 06/10/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى